الأراضي المقدسة الخضراء/GHL
أسفرت الحرب الإسرائيلية الدموية ضد قطاع غزة عن مذابح بشرية مرعبة من أسوأ ما شهدناه في التاريخ الإنساني المعاصر، أدت إلى إفناء آلاف الأسر وتدمير مئات آلاف المباني والمنازل والمنشآت. يضاف إلى ذلك الجرائم البيئية والإيكولوجية الرهيبة، ما أثر على جوانب مختلفة من النظام البيئي-المناخي. المقال التحليلي التالي يتناول تحديدا المجازر الإسرائيلية البيئية وما تسببت به من عواقب وخيمة على البنية التحتية والصحة العامة، والموارد المائية وتلوث المياه، واستنزاف المياه الجوفية، وتدهور التربة والزراعة، وإمدادات الطاقة، والنظام المناخي، وتدمير الموائل، وتلوث الهواء والنظم الإيكولوجية البحرية والتلوث من الأسلحة.
القصف الإسرائيلي الجوي "السجادي" والأحزمة النارية المكثفة والهجمات البرية دمرت الطرق والجسور ومحطات توليد الطاقة وشبكات النقل والاتصالات. الدمار الهائل والشامل فاقم الظروف المعيشية المروعة أصلا لأهالي قطاع غزة.
الهجمات الإسرائيلية على محطات توليد الكهرباء أدت إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل كامل ودائم، ما أثر على المشافي وإمدادات المياه وأنظمة الصرف الصحي.
تدمير المشافي والعيادات ومرافق الرعاية الصحية وإخراج معظمها عن الخدمة، أثر بشدة على الصحة العامة، حيث يواجه أكثر من مليوني شخص في قطاع غزة مخاطر صحية ووبائية قاتلة بسبب عدم الحصول على المياه النظيفة ودمار شبكات الصرف الصحي، ناهيك عن عمليات التجويع الجماعي المنظم.
كما أن العيش تحت تهديد دائم بالعنف الدموي يؤدي إلى التوتر والقلق والصدمات النفسية، ويؤثر على الصحة العقلية.
مجزرة المياه
دمر العدوان الإسرائيلي معظم البنية التحتية للمياه في قطاع غزة، بما في ذلك الآبار والخزانات وشبكات الصرف الصحي، ما أدى إلى تفاقم أزمة المياه المتأزمة أصلا، وتلويث موارد المياه الشحيحة، ما جعلها غير صالحة للاستهلاك البشري إلى حد كبير.
الحرب المدمرة المستمرة فاقمت استنزاف موارد المياه الجوفية المستنزفة فعليا منذ سنوات طويلة في غزة. كما أن تدمير الآبار وطبقات المياه الجوفية قلل من إمكانية الحصول على المياه النظيفة، ما ترك آثارا مفزعة على الاستهلاك البشري والزراعة على حد سواء.
يضاف إلى ذلك تدمير أنظمة الصرف الصحي ومعالجة المياه؛ إذ أن تدمير أو إغلاق محطات المعالجة ضاعف الأزمة الصحية العامة مع ارتفاع كبير في عدد المصابين بالتهابات الجهاز التنفسي والأمراض التي تنقلها المياه الملوثة.
حاليا، يتدفق أكثر من 100 مليون لتر من مياه الصرف الصحي الخام إلى البحر الأبيض المتوسط يوميا بسبب محطات المعالجة المتضررة. التلوث الناجم عن التسرب من شبكات الصرف الصحي والملوثات الكيميائية فاقم تدهور جودة المياه.
كما أن الأضرار التي لحقت بمحطات تحلية المياه عمقت أزمة المياه، تاركة الملايين دون إمكانية الحصول على مياه الشرب النظيفة؛ علما أنه قبل العدوان كانت موارد المياه في غزة ملوثة بشدة، حيث أن 97٪ من المياه الجوفية غير صالحة للاستهلاك البشري بسبب ارتفاع مستويات الملوحة والتلوث بالنترات.
والمثير أن المعدل اليومي لاستهلاك الفرد من المياه في شمال قطاع غزة حوالي لترين (الحد الأدنى الموصى به حسب منظمة الصحة العالمية 100 لتر).
في مدينة غزة وحدها، دمرت قوات الاحتلال الإسرائيلي 40 بئر مياه، و9 محطات صرف صحي، ومليون متر مربع من الشوارع والطرق، و8 حدائق -بينها حديقة الجندي المجهول وحديقة بلدية غزة الرئيسية- واقتلعت 55 ألف شجرة، بالإضافة إلى إتلاف 100 ألف وثيقة عن مباني المدينة وشوارعها بسبب قصف مركز الأرشيف. كما أن 70 ألف طن نفايات صلبة متراكمة في جميع أنحاء المدينة (حسب بلدية مدينة غزة).
فيما يلي بعض الأمثلة التي تمكنا من رصدها حول الآثار المدمرة على الموارد المائية التي أحدثها العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة:
- تملح المياه الجوفية: يقع قطاع غزة في منطقة جافة حيث الوصول إلى موارد المياه العذبة محدود. ومنذ سنوات طويلة فرضت إسرائيل حصارا مائيا على قطاع غزة حيث منعت المياه السطحية والجوفية من أن تغذي بشكل طبيعي مورد المياه الرئيسي في قطاع غزة، وهو الحوض الجوفي الساحلي. نتيجة ذلك، بالإضافة إلى تفاقم تسرب المياه العادمة إلى المياه الجوفية خلال العدوان الإسرائيلي والإفراط في استخراج المياه الجوفية بسبب النمو السكاني، ازداد بشكل خطير تسرب المياه المالحة إلى طبقة المياه الجوفية، وهذه ظاهرة جيولوجية تتمثل في تدفق المياه المالحة من البحر (التي تحتوي على مستويات عالية من الأملاح الذائبة مثل أيونات الصوديوم والكلوريد) إلى طبقات المياه الجوفية الساحلية، وبالتالي تلوث المياه الجوفية العذبة. وفي المحصلة، زيادة ملوحة المياه الجوفية تجعلها غير صالحة للشرب والري، ما يؤدي إلى عواقب وخيمة على الزراعة والصحة العامة.
- تلوث المياه الجوفية: أطلق العدوان الإسرائيلي الملوثات في البيئة الغزية، ما أدى إلى تسربها نحو المياه الجوفية. فعلى سبيل المثال، تدمير المباني يؤدي إلى إطلاق العديد من المواد الكيميائية الخطرة في التربة، بما في ذلك المعادن الثقيلة والمركبات العضوية. وبالطبع، تتسرب هذه الملوثات إلى المياه الجوفية، ما يشكل مخاطر صحية لأولئك الذين يعتمدون عليها كمياه للشرب. التحليلات الكيميائية يمكنها تحديد وجود ملوثات محددة في الماء.
- التلوث بمياه الصرف الصحي: تدمير مرافق معالجة المياه العادمة (مياه الصرف الصحي) وأنابيب الصرف الصحي أو قطع الوقود اللازم لتشغيلها، يؤدي إلى تصريف المياه العادمة الخام غير المعالجة في البيئة. مياه الصرف الصحي تحوي ملوثات مختلفة، بما في ذلك مسببات الأمراض والمواد العضوية. عندما تلوث مياه الصرف الصحي المياه السطحية أو تتسرب إلى الأرض، يمكن أن تؤدي إلى انتشار الأمراض المنقولة بالمياه والتأثير على جودة المياه بشكل عام. وجود البكتيريا القولونية البرازية في الماء يعد مؤشرا شائعا على التلوث بمياه الصرف الصحي.
- احتياجات تحلية المياه: نظرا لمحدودية توافر موارد المياه العذبة، يعتمد قطاع غزة بشكل كبير على تحلية المياه لتوفير مياه الشرب. تحلية المياه هي عملية كثيفة الاستهلاك للطاقة، وبالتالي تدمير البنية التحتية، بما في ذلك الشبكات الكهربائية، أدى إلى تعطيل تشغيل محطات تحلية المياه، ما يعني توقف العملية الكيميائية لإزالة الأملاح والشوائب من مياه البحر لجعلها مناسبة للاستهلاك.
- تفشي الأمراض المنقولة بالمياه: تلوث مصادر المياه بالملوثات، بما في ذلك مياه الصرف الصحي والمعادن الثقيلة، يؤدي إلى تفشي الأمراض المنقولة بالمياه، مثل الكوليرا والدوسنتاريا والتهاب الكبد الوبائي.
- التأثير على الزراعة: تعتمد الزراعة في قطاع غزة بشكل كبير على الري، وبالتالي فإن محدودية توافر المياه العذبة بسبب التلوث والملوحة تؤثر على نمو المحاصيل، حيث أن المياه المالحة تؤدي إلى تراكم الأملاح في منطقة الجذر، وبالتالي تتأثر كيمياء تفاعلات التربة والنبات، ما يتسبب في إجهاد النباتات وتقليل الغلة الزراعية.
إن لتدمير وتلوث الموارد المائية عواقب طويلة الأمد على توافر مياه الشرب الآمنة والنظيفة، والزراعة والصحة العامة في قطاع غزة. ولمعالجة ذلك، يجب استعادة وصيانة البنية التحتية للمياه، فضلا عن تنفيذ تدابير لحماية مصادر المياه من التلوث والملوحة. كما أن تكريس ممارسات الإدارة المستدامة للمياه، مثل معالجة مياه الصرف الصحي والاستخدام الفعال للمياه في الزراعة، ضروري للتخفيف من الآثار طويلة الأجل للحروب الإسرائيلية.
خراب الزراعة
تسبب العدوان الإسرائيلي في تدمير واسع النطاق للأراضي الزراعية، إذ تلوثت التربة بشدة من مخلفات القنابل والمتفجرات السامة، ما تسبب في التصحر والتعرية وتدهور الأراضي.
أكثر من 60٪ من الأراضي الزراعية في قطاع غزة دُمِّرت أو تعذر الوصول إليها بسبب الأنشطة العسكرية الإسرائيلية، ما أثر على "الأمن الغذائي" للسكان.
الذخائر الإسرائيلية غير المنفجرة في الحقول تشكل خطرا كبيرا على المزارعين والعمال الزراعيين، ما يعوق جهود الزراعة. تدمير الدفيئات والأراضي الزراعية شل إنتاج الغذاء، كما أن تلوث التربة من المعادن الثقيلة والمواد الكيميائية الخطرة من مخلفات القنابل أدى إلى تدهور جودة التربة وتآكلها وانخفاض خصوبتها وإنتاجيتها.
في ظل حرب التجويع، اللافت أن كما كبيرا من المزروعات والأعشاب في أراضي قطاع غزة تلوثت بالذخائر الإسرائيلية، إذ أن حالات تسمم غذائي كثيرة تصل يوميا المشافي والمراكز الصحية المتبقية في مختلف أنحاء القطاع، جراء تلوث المحاصيل والأعشاب بالذخائر.
فيما يلي بعض الأمثلة على الآثار المدمرة التي تسبب بها العدوان على الأراضي الزراعية في قطاع غزة:
- تآكل التربة: الدمار الناجم عن العدوان الإسرائيلي، بما في ذلك القصف الجوي والبري، تسبب في تآكل التربة، أي إزالة الطبقة العليا من التربة الغنية بالمواد العضوية والمغذيات. هذا أدى إلى كشف باطن الأرض الأقل خصوبة وبالتالي فقدان إنتاجية التربة. انفصال وحركة جسيمات التربة هو عملية فيزيائية وكيميائية تتأثر بعدة عوامل مثل هطول الأمطار ونوع التربة.
- التلوث بالملوثات الكيميائية والمعادن الثقيلة: تدمير المباني والبنية التحتية يؤدي إلى إطلاق مجموعة واسعة من الملوثات الكيميائية، بما في ذلك الهيدروكربونات والمعادن الثقيلة والمواد الخطرة. يمكن أن تتسرب هذه المواد إلى التربة، ما يؤثر على تركيبها الكيميائي ويشكل مخاطر صحية محتملة لأولئك الذين يتلامسون مع التربة الملوثة. كما أن تدمير المباني والطرق، يؤدي إلى إطلاق المعادن الثقيلة في البيئة، مثل الرصاص والكادميوم والزئبق، التي يمكن أن تلوث التربة ولها تأثيرات طويلة الأمد على جودتها. كيمياء تلوث التربة بالمعادن الثقيلة تتضمن عملية ربط المعادن بجزيئات التربة وامتصاصها المحتمل من قبل النباتات، ما يشكل مخاطر صحية على البيئة وصحة الإنسان.
- درجة حموضة التربة المتغيرة: تتأثر كيمياء التربة بشدة بدرجة الحموضة (pH)، ما يؤثر على مدى توافر المغذيات للنباتات. استخدام المتفجرات واحتراق المواد أثناء الحرب يؤدي إلى إطلاق مواد قلوية أو حمضية في التربة، ما يؤدي إلى تغيير درجة الحموضة. مستويات الأس الهيدروجيني القصوى تؤثر على قابلية ذوبان وتوافر العناصر الغذائية الأساسية مثل النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم التي تعد حيوية لنمو النبات.
- تدهور بنية التربة: ضغط التربة الناجم عن حركة الآليات العسكرية الثقيلة وإزاحة جزيئات التربة عن طريق الانفجارات، يؤدي إلى تدهور بنية التربة. بنية التربة عبارة عن ترتيب جزيئات التربة في مجاميع، وتلعب دورا حاسما في تسرب المياه واختراق الجذور. ضغط التربة يعيق هذه العمليات، ما يؤثر على نمو النبات.
- فقدان المواد العضوية: تدمير الغطاء النباتي وحرق المباني يؤدي إلى فقدان المواد العضوية في التربة. المادة العضوية مهمة لخصوبة التربة وقدرتها على الاحتفاظ بالرطوبة. احتراق المواد العضوية يطلق ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، ما يقلل من محتوى الكربون العضوي في التربة.
- تراكم الملح: تسرب مياه البحر إلى المياه الجوفية (التملح)، يؤدي إلى تراكم الأملاح في التربة، بما في ذلك كلوريد الصوديوم، ما يؤثر سلبا على جودة التربة ونمو النبات من خلال تعطيل التوازن الأسموزي (التناضحي) في جذور النباتات. تتضمن كيمياء ملوحة التربة إذابة الأملاح في الماء وتفاعلها مع جسيمات التربة.
- التأثير على المجتمعات الميكروبية: التربة هي موطن لمجتمع متنوع من الكائنات الحية الدقيقة التي تلعب دورا حاسما في دورة المغذيات وصحة التربة. الاضطرابات التي تسببها الحرب يمكن أن تعطل المجتمعات الميكروبية، ما يؤثر على قدرتها على تحليل المواد العضوية ودعم نمو النبات.
لتدمير التربة وتلوثها أثناء الحروب عواقب طويلة الأجل على الزراعة والبيئة وصحة الإنسان. الجهود المبذولة للتخفيف من هذه الآثار ينبغي أن تشمل برامج معالجة التربة وإعادة تأهيلها، فضلا عن اعتماد الممارسات الزراعية المستدامة (الزراعة الإيكولوجية) لاستعادة خصوبة التربة ومنع المزيد من تدهورها.
مستويات مروعة لتلوث الهواء
أطلق القصف الإسرائيلي العنيف ملوثات في الهواء والبيئة من حرق النفايات والمباني، بما في ذلك الجسيمات والمعادن الثقيلة والمركبات العضوية السامة المتطايرة. خلال العدوان، ارتفعت مستويات تلوث الهواء، حيث تجاوزت تركيزات الجسيمات الحدود الآمنة، ما أدى إلى انتشار أمراض الجهاز التنفسي بين المواطنين.
كان للحروب الإسرائيلية الحالية والسابقة في قطاع غزة آثار كبيرة على تلوث الهواء. فيما يلي بعض الأمثلة:
- احتراق المتفجرات والمباني: خلال العمليات العسكرية، تُستخدم المتفجرات وتُدمَّر المباني. احتراق المتفجرات والمواد الموجودة في المباني يطلق ملوثات مختلفة في الهواء. فعلى سبيل المثال، عندما تنفجر المتفجرات، فإنها تنتج أكاسيد النيتروجين (NOx) بسبب ارتفاع مستويات الضغط ودرجات الحرارة. أكاسيد النيتروجين تساهم في تكوين الأوزون على مستوى الأرض، وهو ملوث هواء ضار يمكن أن يُهَيِّج الجهاز التنفسي ويسبب مشاكل صحية أخرى.
- الجسيمات الدقيقة (PM): يولد تدمير البنية التحتية كمية كبيرة من المواد الجسيمية (PM)، بما في ذلك السخام والغبار والرماد. استنشاق هذه الجسيمات الدقيقة في عمق الجهاز التنفسي يؤدي إلى مشاكل صحية. هذه الجسيمات عبارة عن خليط غير متجانس من الجسيمات الصلبة والسائلة التي يمكن أن تحوي مواد كيميائية مختلفة، حسب ما يتم حرقه أو هدمه. فعلى سبيل المثال، حرق البلاستيك أو المواد الاصطناعية الأخرى في المباني يؤدي إلى إطلاق مواد كيميائية سامة في الهواء.
- المركبات العضوية المتطايرة (VOCs): يمكن للحرائق الناجمة عن القصف الإسرائيلي أن تطلق مركبات عضوية متطايرة، مثل البِنْزِين والتولوين والزيلين تتفاعل في الغلاف الجوي لتشكيل الأوزون والضباب الدخاني على مستوى الأرض. بالإضافة إلى ذلك، تعتبر بعض المركبات العضوية المتطايرة ملوثات هواء خطرة ذات آثار صحية خطيرة، بما في ذلك احتمالية امتلاكها خصائص مسرطنة.
- ثاني أكسيد الكبريت (SO2): يمكن للمواد المحتوية على الكبريت في المباني، مثل الخرسانة، إطلاق ثاني أكسيد الكبريت (SO2) عند حرقها. ثاني أكسيد الكبريت يتسبب في مشاكل بالجهاز التنفسي، خاصة بالنسبة للأفراد الذين يعانون من مشاكل تنفسية. ثاني أكسيد الكبريت يمكن أن يساهم أيضا في تكوين الأمطار الحمضية التي تضر بالنظم الإيكولوجية والبنية التحتية.
- التفاعلات الكيميائية في الغلاف الجوي: التفاعلات الكيميائية بين الملوثات المنبعثة خلال الحرب يمكن أن تؤدي إلى تكوين ملوثات ثانوية. فعلى سبيل المثال، بوجود ضوء الشمس، يمكن أن تتفاعل أكاسيد النيتروجين (NOx) والمركبات العضوية المتطايرة (VOCs) لإنتاج الأوزون على مستوى الأرض، وهو مكون رئيسي للضباب الدخاني. الأوزون على مستوى الأرض يعتبر مهيجا قويا للجهاز التنفسي، وله آثار ضارة على صحة الإنسان.
- أول أكسيد الكربون (CO): الاحتراق غير الكامل للمواد يُطلِق أول أكسيد الكربون (CO)، وهو غاز عديم اللون والرائحة يمكن أن يعطل قدرة جسم الإنسان على نقل الأكسجين. استنشاق أول أكسيد الكربون يمكن أن يؤدي إلى أعراض التسمم بأول أكسيد الكربون، بما في ذلك الصداع والدوخة وفي الحالات الشديدة يؤدي إلى الموت.
- المعادن الثقيلة: الأنشطة العسكرية وتدمير البنية التحتية تؤدي إلى إطلاق معادن ثقيلة مثل الرصاص والكادميوم والزئبق في الهواء. هذه المعادن السامة يمكن أن تشكل مخاطر صحية خطيرة عند استنشاقها أو تناولها، كما تؤدي إلى تدهور جودة الهواء في المنطقة، ما يشكل تهديدا خطيرا على الصحة العامة. هذه العمليات الكيميائية الناجمة عن تدمير واحتراق المواد أثناء الحرب معقدة ويمكن أن يكون لها عواقب بيئية وصحية طويلة الأمد على سكان قطاع غزة. الجهود الرامية إلى التقليل من هذه الآثار إلى أدنى حد، ينبغي أن تشمل رسم استراتيجيات لمعالجة تلوث الهواء الناتج أثناء الحروب وبعدها.
تدمير النظام المناخي
كشفت دراسة جديدة أن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري المتولدة خلال الشهرين الأولين من الحرب في غزة كانت أكبر من البصمة الكربونية السنوية لأكثر من 20 دولة من أكثر دول العالم عرضة للكوارث المناخية.
الدراسة التحليلية البريطانية-الأميركية نُشِر ملخصها مؤخرا في جريدة الغارديان، كشفت عن الآثار المدمرة على النظام المناخي في منطقتنا الناتجة عن كميات ضخمة جدا من ثاني أكسيد الكربون المنبعثة من الطائرات الحربية الإسرائيلية وقصفها الواسع لقطاع غزة، بالإضافة للعمليات العسكرية الإسرائيلية البرية المكثفة بالدبابات والآليات الثقيلة والمدفعية والقنابل والقذائف والصواريخ. التقديرات العلمية تشير إلى أنه منذ السابع من أكتوبر الماضي وحتى أوائل كانون أول، تسبب العدوان الإسرائيلي في انبعاث مئات آلاف أطنان مكافئ ثاني أكسيد الكربون؛ ما يعني أن التكلفة المناخية للعدوان تعادل عملية حرق أكثر من 150 ألف طن من الفحم.
جزء كبير من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون (حسب ذات الدراسة) ناتج أيضا عن الجسر الجوي الأميركي المكثف (مئات الطائرات) لدعم العدوان الإسرائيلي.
فقدان التنوع البيولوجي
أدى تدمير القوات الإسرائيلية للموائل الطبيعية، بما في ذلك الأشجار والأحراج والأراضي الرطبة والمناطق الساحلية، إلى فقدان التنوع البيولوجي وتعطيل النظم الإيكولوجية في قطاع غزة، علاوة على إهلاك الحياة البرية ومصائد الأسماك.
تلعب هذه النظم الإيكولوجية دورا حاسما في الحفاظ على التنوع البيولوجي ودعم سبل العيش المحلية. الأراضي الرطبة (كما في منطقة وادي غزة) تعمل على تصفية المياه والحماية من الفيضانات ودعم مصائد الأسماك.
التلوث الناجم عن الأسلحة المستخدمة والحطام والمواد الكيميائية والتفجيرات بمحاذاة الشاطئ، تسبب في أضرار جسيمة للحياة البحرية على طول ساحل قطاع غزة، ما أثر بالتالي على مصائد الأسماك والنظم الإيكولوجية الساحلية.
فيما يلي بعض الأمثلة حول ما تسبب به العدوان الإسرائيلي من آثار مدمرة على الحياة البحرية قبالة سواحل قطاع غزة:
- تلوث المياه: الأعمال العسكرية الإسرائيلية والأضرار التي لحقت بالبنية التحتية خلال الحرب يمكن أن تؤدي إلى إطلاق ملوثات كيميائية مختلفة في البحر الأبيض المتوسط. فعلى سبيل المثال، احتراق المتفجرات ومواد البناء يمكن أن يؤدي إلى تصريف المواد الكيميائية والمعادن الثقيلة والملوثات الأخرى في البيئة البحرية، ما يؤثر على جودة المياه والنظم الإيكولوجية البحرية. تغلغل المعادن الثقيلة مثل الرصاص والكادميوم إلى المياه البحرية يشكل تهديدا للحياة البحرية، ما يؤدي إلى انحلال وتشتت هذه المواد في مياه البحر.
- التلوث بمياه الصرف الصحي: عطل العدوان أنظمة جمع مياه الصرف الصحي (المياه العادمة) ومرافق معالجة تلك المياه، ما أدى إلى التصريف المباشر للمياه العادمة غير المعالجة في البحر. تحوي المياه العادمة مواد عضوية ومغذيات (مثل النيتروجين والفوسفور) ومسببات الأمراض. عندما تدخل المياه العادمة إلى البيئة البحرية يمكن أن تؤدي إلى "التخثث" (eutrophication)، وهي عملية تحفز فيها المغذيات المفرطة نمو الطحالب، ما يؤدي إلى نضوب الأكسجين وإلحاق الضرر بالحياة البحرية.
- تغيرات الملوحة: تسرب مياه البحر إلى المياه الجوفية في قطاع غزة، وبالتالي اختلاط المياه العذبة بمياه البحر، يسبب زيادة ملوحة البيئات البحرية القريبة من الشاطئ، بالإضافة إلى تفاقم تلوثها بسبب الحرب. زيادة الملوحة والتلوث تؤدي إلى الإخلال بتوازن النظم الإيكولوجية البحرية، ما يضر بالأنواع المتكيفة مع نطاق ملوحة معين.
- التنوع البيولوجي البحري: التفاعلات بين الملوثات والبيئة والكائنات البحرية، وبالتالي تدمير المناطق والموائل الساحلية، بما في ذلك الشعاب المرجانية وأحواض الأعشاب البحرية، يؤثر مباشرة على التنوع البيولوجي البحري. الشعاب المرجانية، على سبيل المثال، حساسة للغاية للتغيرات في نوعية المياه ويمكن أن تعاني من الترسيب والتلوث.
- السلسلة الغذائية البحرية: الملوثات المتسربة إلى البيئة البحرية، مثل المعادن الثقيلة، يمكن أن تمتصها الكائنات البحرية، ما يؤدي إلى التراكم البيولوجي للمواد السامة في السلسلة الغذائية. على سبيل المثال، عندما تبتلع الكائنات البحرية الصغيرة جزيئات ملوثة، فإنها قد تنقل الملوثات إلى المفترسات الكبيرة، ما يشكل خطرا على صحة الإنسان عندما يستهلك الناس المأكولات البحرية الملوثة.
الآثار التراكمية لتلوث المياه، وتصريف مياه الصرف الصحي، وتدمير الموائل، وعوامل أخرى، تؤدي في المحصلة إلى تدهور النظم الإيكولوجية البحرية والحد من الثروة والإنتاجية الإجمالية للبحر الأبيض المتوسط قبالة سواحل قطاع غزة.
الجهود المبذولة للتخفيف من هذه الآثار يجب أن تشمل حماية واستعادة النظم الإيكولوجية الساحلية، وتحسين معالجة مياه الصرف الصحي، وتعزيز ممارسات الصيد المستدامة.
جفاف إمدادات الطاقة
للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة آثار مدمرة على إمدادات الطاقة، وخاصة فيما يتعلق بمصادر الطاقة والبنية التحتية. فيما يلي بعض الأمثلة:
- الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية: أدى الدمار الناجم عن العدوان، بما في ذلك القصف الجوي والهجمات البرية، إلى انهيار البنية التحتية والهياكل الأساسية لتوليد الكهرباء وتوزيعها في قطاع غزة. منذ شهر أكتوبر 2023 وحتى يومنا هذا يعاني جميع أهالي القطاع من انقطاع كامل للكهرباء.
- إمدادات الوقود: في سياق سياسة العقاب الجماعي، تعمد الاحتلال الإسرائيلي قطع الوقود عن قطاع غزة، ما أثر على إمدادات الوقود المستخدم لتوليد الكهرباء، إذ أن محطات توليد الكهرباء في قطاع غزة تعتمد على مولدات الديزل. تَوَقُف تزويد الوقود بسبب العدوان، عَطَّل إنتاج الكهرباء، كما شل عمل مولدات الكهرباء المحلية في المشافي، وبالتالي شلها عن العمل.
- مصادر الطاقة البديلة: شل العدوان إمكانية الوصول إلى مصادر الطاقة البديلة، مثل الألواح الشمسية والبطاريات، حيث لعبت هذه المصادر، قبل العدوان، دورا هاما في تنويع إمدادات الطاقة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري. وفي حالات كثيرة، استهدف الجيش الإسرائيلي بشكل مباشر الألواح الشمسية في المشافي وغيرها من المرافق المدنية الحيوية التي تقدم الخدمات.
- توافر الموارد: خلال العدوان، تم تقييد الوصول إلى الموارد الحيوية المستخدمة في توليد الطاقة، مثل الغاز الطبيعي.
- العواقب البيئية: الدمار الذي لحق بالبنية التحتية للطاقة وإمدادات الوقود أدى إلى زيادة الاعتماد على طرق توليد الطاقة الأقل كفاءة أو غير الصديقة للبيئة، والتي تطلق الملوثات في الهواء، بما في ذلك غازات الدفيئة، مثل ثاني أكسيد الكربون (CO2)، والجسيمات.
- تداخل الشبكة الكهربائية: أدت الهجمات الإسرائيلية على البنية التحتية للطاقة إلى تعطيل الشبكة الكهربائية، ما سيؤثر في المستقبل على استقرار وموثوقية إمدادات الكهرباء.
إهلاك الإنسان والنفس
للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة آثار مروعة بعيدة المدى تتجاوز الحيز البيئي المباشر الذي سبق وناقشناه. وتتمثل هذه الآثار بالعواقب الاجتماعية والسياسية والإنسانية العميقة ومتعددة الأوجه على الناس والمؤسسات. بعض هذه الجوانب يتعلق بالآثار الإنسانية والاقتصادية والثقافية التي نوجز أهمها بما يلي:
- الكارثة الإنسانية: تسبب العدوان الإسرائيلي بكوارث إنسانية، إذ أدى إلى نزوح نحو مليوني شخص (حوالي 87% من إجمالي سكان القطاع)، وأكثر من 110 آلاف شهيد ومفقود وجريح (نحو 5% من إجمالي السكان). وقد تعطلت بشكل شبه كامل إمكانية الحصول على الرعاية الطبية والصحية، ناهيك عن دمار كامل في قطاع التعليم والخدمات الأساسية. هذه الكارثة الإنسانية لها عواقب اجتماعية واقتصادية وصحية عامة.
مئات آلاف الغزيين مهجرون الآن، ناهيك عن آلاف آخرين مهجرون أصلا منذ حربي 2014 و2021. كما أن مئات آلاف المنازل دمرت وآلاف المنازل قصفت على رؤوس ساكنيها، ما أدى إلى هلاك أسر بكاملها.
أمام هذا المشهد الدموي البشع الذي صنعه الاحتلال، لا يزال البعض يستغرب من إصرار أهلنا في غزة على الثبات والنضال من أجل وجودهم وحقوقهم، وتفضيلهم الموت وقوفًا على الحياة خنوعًا.
- الأثر الاقتصادي: دمرت الحرب المستمرة جميع القطاعات الاقتصادية في قطاع غزة، وبالتالي تعطلت كامل الأنشطة الاقتصادية، ما أدى إلى بطالة شبه مطلقة لقوة العمل الغزية. البنية التحتية الاقتصادية، بما في ذلك المصانع والمزارع والمؤسسات التجارية دمرت تدميرا هائلا، ما أثر وسيؤثر على الاستدامة الوجودية للاقتصاد والحصول على الضروريات الأساسية.
- التأثير النفسي: للعدوان الإسرائيلي الحالي وللحروب السابقة، تأثيرات متراكمة عميقة على البنية النفسية لسكان قطاع غزة، وبخاصة الأطفال الذين نشأوا في مناخ من انعدام الأمن والعنف الدموي. اضطرابات ما بعد الصدمة (Post-traumatic stress disorder/ PTSD) وقضايا الصحة الذهنية الأخرى شائعة جدا في مختلف أنحاء القطاع.
- الوصول إلى التعليم: شُلَّت قدرة الأطفال في قطاع غزة على الوصول إلى التعليم شللا كاملا، بسبب تدمير المدارس وتشريد الأسر وعدم الاستقرار العام، ما يؤثر على آفاق التعليم على المدى الطويل والتنمية المستقبلية للمنطقة.
- أزمة اللاجئين: قبل العدوان الحالي، كان قطاع غزة موطنا لعدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948 (أكثر من نصف سكان القطاع). العدوان الحالي فاقم نزوحهم وظروفهم المعيشية، ما أدى إلى أزمة لاجئين طال أمدها. ولهذا بعد عربي وإقليمي ودولي أوسع نطاقا.
- التراث الثقافي والتاريخي: يتمتع قطاع غزة بتراث ثقافي وتاريخي ثري عانى معظمه من الدمار الذي لحق بالمواقع التاريخية والتراثية والدينية والآثار والمتاحف والمؤسسات الثقافية، علما أن الحفاظ على هذا التراث ضروري لهوية الشعب الفلسطيني وذاكرته الجماعية.
خلاصة واستنتاجات
ترك العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بصمة دموية مروعة دائمة، أثرت على مختلف جوانب الحياة والبيئة، ابتداء من الآثار المباشرة على البنية التحتية والموارد المائية وجودة الهواء، وانتهاء بالعواقب الإنسانية الأوسع والدمار الاقتصادي والصدمات الاجتماعية والنفسية.
ظروف الحياة في قطاع غزة كانت أصلا بائسة جدا قبل هذا العدوان، إذ منذ عام 2006 يعيش سكان قطاع غزة تحت الحصار والتجويع، فجاءت هذه الحرب الإسرائيلية لتدمر ما تبقى من ضروريات الحياة الأساسية في قطاع غزة.
كان للدمار والتلوث الناجمين عن العدوان تداعيات بيئية خطيرة، ما أدى إلى تغيير كيمياء التربة والماء والهواء، فتآكلت التربة وتلوثت المياه وتدهورت جودة الهواء. هذه العواقب البيئية تؤثر بدورها على الزراعة والصحة العامة.
علاوة على ذلك، آثار العدوان تتجاوز بكثير البيئة المادية، إذ تسببت في أزمة إنسانية عميقة ومعقدة، ما ساهم في النزوح والبطالة وانسداد آفاق الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية وغيرها من الخدمات الأساسية. الخسائر البشرية العميقة لهذا الصراع تؤكد الصدمة النفسية التي يعاني منها أهالي القطاع، ولا سيما الأطفال.
للعدوان أيضا تداعيات سياسية وثقافية، حيث شلت بنية الحكم والهياكل المدنية، وتفاقمت أزمات اللاجئين، وأعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي المحلي. كما أن تدمير التراث الثقافي هدد هوية الفلسطينيين وذاكرتهم الجماعية.
وأسفرت الحرب البشعة عن كارثة انعدام المياه والغذاء والكهرباء والإمدادات الطبية وتفشي الأوبئة والمجاعة. وفي ظل غياب النظافة العامة وتدفق مياه الصرف الصحي المكشوفة في كل مكان، انتشرت الملوثات والأمراض الجلدية، وبخاصة الجرب والحكة والطفح الجلدي، بالإضافة إلى أمراض الإسهال والتهاب السحايا بين الأطفال على وجه الخصوص. إن هول الكارثة أكبر بكثير من قدرات سكان القطاع على مواجهتها بمفردهم.
ختاما، العدوان الإسرائيلي عبارة عن أزمة متعددة الأبعاد ذات آثار عميقة بعيدة المدى. فهم هذه العواقب المتنوعة ضروري لإدراك تعقيدات الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي ولتلبية الاحتياجات العاجلة للمواطنين المتضررين في قطاع غزة.
العواقب البيئية المدمرة طويلة الأجل ستستمر لأجيال، ما يؤثر على رفاه الإنسان الفلسطيني والنظم الإيكولوجية الحساسة في القطاع.
العدوان على قطاع غزة ألحق دمارا بيئيا مروعا في مختلف القطاعات، ما يستلزم اتخاذ إجراءات فورية لمواجهة هذه التحديات واستعادة أكبر قدر ممكن من التوازن البيئي في المنطقة.
مواجهة التحدي البيئي-الصحي الضخم، وإعادة إعمار القطاع يتطلب رفع الحصار والاستثمار في البنية التحتية والوصول إلى الموارد الأساسية، وممارسات التنمية المستدامة والمشاركة الكبيرة من الأطراف العربية والدولية المعنية، والمنظمات البيئية والمؤسسات والسلطات المحلية.
No comments:
Post a Comment