الأراضي المقدسة الخضراء/GHLands
في نهاية شهر نيسان الماضي، تلبّدت سماء محافظة رام الله والبيرة في الضفة الغربية، على مدار أسبوع متواصل، بسحب دخانية خانقة. لكن لم تتلبّد هذه السحب بسبب موجة الحر التي اقتحمت ربيع فلسطين، وإنما بسبب حرائق متتالية اشتعلت في محطات ترحيل النفايات المؤقتة التابعة لبلديتيّ رام الله والبيرة.
وفي حين لم تنته فيه تحقيقات بلدية رام الله وسلطة جودة البيئة حول مسببات الحريق، إلا أن شهود عيان شاهدوا جيبات الاحتلال الإسرائيلي وهي تقتحم المنطقة وتلقي قنابل الغاز والصوت فوق المكبات.
وقد استمرّ الحريق الذي شبّ في محطة ترحيل النفايات التابعة لبلدية رام الله أسبوعاً كاملاً إلى حين تمت السيطرة عليه بشكل كلي. في حين أخُمد حريق محطة البيرة في غضون 24 ساعة.
لم تكن هذه الكارثة البيئية الأولى التي تُرتكب في مكبات النفايات ومحطات تجميعها المؤقتة في الضفة الغربية. فمنذ اندلاع حرب الإبادة على قطاع غزّة، يشنّ الاحتلال الإسرائيلي حروباً أخرى وبأدوات مختلفة في الضفة.
أحد أشكال هذه الحروب هو إعاقة الوصول إلى مكبّ نفايات "زهرة الفنجان" وهو المكبّ الرئيس لجميع مدن الضفة والواقع في مدينة جنين.
محطة ترحيل النفايات في رام الله بعد الحريق |
بالإضافة إلى إغلاق محطة ترحيل النفايات التابعة لبلدية البيرة بحجج "أمنية"، كونها تقع في منطقة جبل الطويل المصنّفة منطقة "ج"، أي الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية. فضلاً عن مصادرة معدّات محطة الترحيل المؤقتة التي لجأت إليها البلدية بعد ذلك، واحتجاز موظف البلدية وسيارته، المُشار إليها كشاحنة لجمع النفايات.
فتضاف ممارسات الاحتلال هذه إلى الانتهاكات التي يرتكبها على أصعدة عدة في الضفة، اقتصادية وزراعية وبيئية وغيرها. انتهاكات قد تبدو صامتة في ظل حرب الإبادة، إلا أنها تحمل تأثيراً بالغاً على حياة الفلسطينيين.
الاحتلال يخلق الأزمة ويقف في طريق الحل
قبل الحرب، كانت بلديتا رام الله والبيرة تتعاونان لاستخدام محطة ترحيل نفايات واحدة تابعة لبلدية رام الله. إلّا أن الأخيرة، وبسبب الحرب، اعتذرت عن استقبال النفايات التابعة لبلدية البيرة بسبب الأزمة التي تسبب بها الاحتلال، وتُركت كلّ بلدية للتعامل مع أزمتها بشكل منفصل.
تحاول البلديات التعاون مع المحافظة ومع الحكم المحلي ومع سلطة جودة البيئة، في سبيل احتواء الأزمة، كما يؤكد رئيس بلدية البيرة. لكن المشكلة أكبر من أن يُطبق التعاون المشترك.
فالطرف الآخر للأزمة هو الاحتلال، الذي لا يمكن السيطرة على ممارساته ونواياه المتعمّدة في خلق هذه الأزمة.
يقول لرصيف22 أمير الخرّاز، مدير مكتب جودة البيئة في محافظة رام الله والبيرة، في سؤال حول الطريقة المُثلى لاحتواء أزمة النفايات: "يكمن الحل في إيجاد مكبات نفايات مخصّصة لكل منطقة. وقد تم طرح خيار إنشاء مكبات نفايات مراقبة، تخدم تجمعات محددة. لكن التحدّي هو في تحديد المكان المناسب لإنشائها".
يؤكد الخرّاز أن مكتب جودة البيئة طلب من بلديات رام الله والبيرة وبيتونيا البحث عن موقع مناسب قد يفي بهذا الغرض، لكن الموضوع لا يزال قيد البحث.
لكن حتى في حال تأمين مناطق بعيدة عن التجمعات السكنية، تصلح لأن تكون مكبات نفايات آمنة، فقد يعرقل الاحتلال حدوث هذا الأمر ببساطة شديدة، كون الأماكن المناسبة لتكون مكبات نفايات تقع في الغالب ضمن المناطق المُصنّفة "ج" (أي التي تقع تحت سيطرة إسرائيلية)".
"وبالتالي، فنحن بحاجة إلى ترخيص وموافقة أولية من الاحتلال لإقامة المكبات. بالعادة، لا يتساهل الاحتلال في إعطاء تراخيص لأي شيء يتعلّق بالبيئة والإصلاحات البيئية"، يقول الخرّاز.
تحديات لوجستية واقتصادية
بعد أن أغلق الاحتلال محطة ترحيل النفايات الرئيسية التابعة لبلدية البيرة فور اندلاع الحرب على غزة، لجأت البلدية لمكتب الارتباط الفلسطيني (وهو مكتب التنسيق بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل) من أجل التنسيق لمحاولة فتح المحطة.
وتمكّن الطرفان، البلدية والارتباط، من فتحها لأوّل مرّة بشكل غير منتظم، وفي أيام محدّدة في الأسبوع. ثم سمح الاحتلال باستخدامها خمسة أيام في الأسبوع، لمدة ثماني ساعات فقط، الأمر الذي أدى إلى تراكم النفايات بشكل مفرط، والتسبّب بخسائر مادية وإدارية.
يعلّق روبين الخطيب، رئيس بلدية البيرة بالإنابة، في حديثه لرصيف22 قائلاً: "تعتبر مدينة البيرة ثالث أكبر مدينة في الضفة الغربيّة. وبالتالي، فإن إغلاق الاحتلال لمحطة ترحيل النفايات التابعة للبلدية يوماً واحداً، سيعني تراكم 120 طناً من النفايات في الحاويات".
ويضيف: "حتى يتم التعامل مع هذه الأزمة، تحتاج البلدية إلى ما لا يقل عن خمسة أيام عمل، وإلى 20% من الجهد الذي يُضاف إلى الجهد المطلوب يومياً. وعليه، فإن البلدية تعيش حالة طوارئ منذ أول أيام حرب الإبادة".
وفي حديثه عن الخسائر المترتبة على إعاقة الاحتلال عملية التخلّص من النفايات بشكل طبيعي، يقول الخطيب: "لدى البلدية عدد كبير من الموظفين. وإذا كان هناك 40 موظفاً يعملون يومياً في جمع النفايات، فإن الإغلاقات المتكررة تعني إهدار ساعات العمل، وتشتيت الموظفين الذين يخرجون من بيوتهم من أجل عمل لا يستطيعون إنجازه".
ويردف: "يسبب ذلك خسائر مادية كبيرة للبلدية. هذا إلى جانب الجهود التي تبذلها إدارة البلدية من أجل التنسيق مع الموظفين وتأمين عملهم خارج دوامهم الاعتيادي، في حال أعاد الاحتلال فتح المكبات بشكل مفاجئ".
هكذا، يضطر الموظفون إلى إنجاز العمل المتراكم والمتأخّر وتعويض الضرر الحاصل. ما يجعل العمل برمته، بحسب الخطيب، عملية منهكةً مادياً وإدارياً.
هل يكون تقليل النفايات هو الحل؟
وكان المجتمع المحلي أبدى استياءه من الحل المؤقت الذي اعتمدته البلدية، والمتمثّل باختيار موقع ترحيل نفايات في المنطقة الصناعية بمدينة البيرة بالقرب من السكّان وبيوتهم ومصالحهم التجارية.
فتأثروا من انبعاثات المكبّ أولاً، ثم ازداد الأمر سوءاً عند اشتعال الحريق في المكب. فتقول ليلى قرعان (29 عاماً) من سكان مدينة البيرة في حديثها لرصيف22: "لم أتحمّل الدخان الصادر من الحريق، وخرجت من المنزل بابنتي التي لا تتعدى العشرة شهور إلى منطقة أخرى. استغرق الأمر يومان حتى سيطرت طواقم البلدية عليه. ولم تتوقف انبعاثات الحريق، إلى أن قامت البلدية بردم المكبّ نهائياً وتغطيته بالتراب".
أما كامل قلالوة (38 عاماً) الذي يسكن في منطقة تبعد 2 كيلو متر عن مكب النفايات التابع لبلدية رام الله، فيقول لرصيف22، واصفاً حالته الصحية في يو الحريق: "لازمني ألم في الصدر وصداع استمر عدة أيام بعد الحريق. لم نتوقف أنا وزوجتي وطفلتي الصغيرة عن السعال، إلا بعد مدة من توقف الحريق".
في ما يتعلّق بإشراك المجتمع المحلي من أجل محاولة التخفيف من الانتهاكات الإسرائيلية تجاه البيئة وبنيتها التحتية، يقول الخرّاز: "نقابل هذه الإجراءات التعسفية بخطط بديلة، وبالإمكانات المتاحة. لكن المتاح محدود جداً، ويواجه في كثير من الأحيان بعدم القبول وسط المجتمعات التي تبدي عدم راحة لكل ما هو بديل".
ويتابع: "لذلك، نحن بحاجة لحملات توعية تستهدف المجتمع المحلي، حتى يتعرّف إلى البدائل والسياسات التخفيفية، حتّى يتقبلها في النهاية. لكن علينا أولاً تقديم مثال ناجح حتى نقوم بإقناع المجتمع به".
في حين يرى الخطيب أن التوعية الثقافية هي الأساس من أجل تقليل النفايات قدر الإمكان. وذلك من خلال تعزيز ثقافة إعادة التدوير، وتكرار استخدام ما يمكن استخدامه أو إصلاحه.
استخدام الجانب الغير متضرر في محطة ترحيل النفايات في رام الله |
استعمار استنزافي
يستخدم الأكاديمي الفلسطيني عبد الستار قاسم مصطلح "الاستعمار الاستنزافي" للتعبير عن طريقة المستعمِر في إبقاء المستعمَر في حالة صراع داخلي وخارجي مستمر. وذلك بهدف استنزاف طاقاته وقدراته. فيجد المستعمَر نفسه غير قادر على الإفلات من تبعيته.
وفي سياق مكبات النفايات، يُعتبر استهداف البيئة الفلسطينية طريقة من طرائق الاحتلال الإسرائيلي في تعطيل الحياة اليوميّة، والتسبب باضطرابات دائمة تخلق بيئة من عدم الاستقرار. وهي ليست المرّة الأولى التي يُستخدم فيها التدهور البيئي كسلاح من قبل الاحتلال، يُراد به إحداث أضرار بيئية طويلة المدى، تظل آثارها محسوسة في المستقبل.
لا يقتصر استهداف الاحتلال لقطاع النفايات على الصلبة منها فقط، بل يستهدف كذلك قطاع معالجة المياه العادمة، وقطاع البنية التحتيّة بشكل كامل.
وعلى الرغم من أن المشكلة المتعلقة بمكبات النفايات تظهر بشكل أكبر في محافظة رام الله والبيرة، تسبب الاحتلال في خلق الأزمات نفسها في كل محافظات الضفة الغربية تقريباً.
فقد تجلّت بشكل كبير في محافظة القدس، وتحديداً في منطقة الرام شمال القدس. ذلك بعد استهداف محطة الترحيل الخاصة بالمنطقة عن طريق إغلاقها أولاً، ومن ثم تدميرها بشكل كامل.
وفيما يتعلّق بمحافظة رام الله والبيرة، فقد توسع الاستهداف إلى منطقة بيتونيا غرب رام الله وتجمعات أخرى في قضاء المحافظة، وبدرجات متفاوتة.
وبالحديث عن ثنائية المستعمِر والمستعمَر، يصف فرانز فانون مكان الأخير بتصوّر الأول، على أنه "متدحرج في الوحل". وهكذا، يسعى الاحتلال إلى إغراق الضفة الغربية، المكان الذي لم يستحوذ عليه كلياً ضمن حدود دولته النظيفة، بالوحل في سبيل تقويض شعور الفلسطينيين بحياة طبيعية في وطنهم.
No comments:
Post a Comment