الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
أراضي زراعية دمرها الجيش الإسرائيلي |
يجتهد المزارعون في قطاع غزة في استصلاح ما يستطيعون من الأراضي التي دمرها الاحتلال خلال حرب الإبادة المستمرة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
لكن أزمتهم الحقيقية قد لا تكمن فقط في الإمكانات التي قلّصتها الحرب، من حيث توفر البذور أو الأشتال والمعدات والمواد اللازمة لعملية الزراعة، بل في الأثر الكارثي الذي قد يكون غير قابل للإصلاح، الذي لحق بالتربة والمياه الجوفية جرّاء الأسلحة التي ترميها إسرائيل فوق أرض القطاع.
يضرب المزارع أحمد ياسين (45 عاماً) من بيت لاهيا شمال القطاع كفاً بكف قائلاً: "باتت مساحة كبيرة من الأرض غير صالحة للزراعة، بسبب المواد السامة التي اختلطت بالتربة".
وكانت قد تعرضت أرضه، التي اعتاد أن يراها وهي تثمر التوت الأرضي والباذنجان والخيار البلدي والفلفل، إلى قصف مباشر من قبل الطيران الحربي الإسرائيلي.
"قد تقتل هذه المواد السامة أي شتلة أو بذرة بمجرد وضعها في الأرض"، يقول أحمد لرصيف22.
وقد أسقطت إسرائيل في قطاع غزة عشرات آلاف الأطنان من الذخائر والقنابل، وصلت 70 ألف طن حتى حزيران/ يونيو 2024. وقد شملت الاستهدافات الإسرائيلية، بحسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، نحو 75% من أراضي غزة الزراعية، إما بعزلها تمهيداً لضمها للمنطقة العازلة أو بتدميرها وتجريفها.
وبشهادة أطباء وخبراء، فقد استخدمت إسرائيل قنابل جديدة ومحرّمة دولياً، "تولد حرارة شديدة وتؤدي إلى تبخر أجساد الضحايا"، كما جاء في تقرير للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
فإن كانت تُبخّر أجساد البشر، فستترك أثراً بعيد المدى على التربة والمياه، أيضاً. وقد يعيش القطاع الزراعي سنين طوال حتى يشهد تعافي الأرض من السموم.
"خسارة الأرض كخسارة الروح"
عاد أحمد في شباط/ فبراير الماضي إلى أرضها التي يمتلكها برفقة أشقائه، ومساحتها 20 دونماً. وقرر أن يحاول زراعتها عند بداية الصيف.
فزرع نبتة الملوخية على مساحة دونم واحد بهدف إجراء اختبار للأرض وفحص مدى صلاحيتها، ليُفاجئ بخسارة المحصول كله.
لم تنبت البذور، على الرغم من أن أحمد اتبع الخطوات الصحيحة للزراعة.
بعدئذٍ، أجرى فحصاً أولياً للتربة، واستشار مهندساً زراعياً، فتأكد أن أرضه باتت غير صالحة للزراعة.
عاش المزارع رائد حجازي (52 عاماً) من محافظة رفح جنوب قطاع غزة، تجربةً مشابهة.
فقد اعتاد أن يزرع أرضه شمال رفح، ومساحتها 18 دونماً، بالبصل والبطاطا والقرع والبطيخ. إلا أنّ الصواريخ الإسرائيلية دكتها أكثر من مرة ودُمّرتها بشكل شبه كامل.
ويؤكد رائد أن المشكلة الكبرى ليست في الدمار الذي يُمكن إصلاحه، بل في تسمم التربة الذي يحتاج إلى سنوات لا يمكن تبيّنها كي يتم التغلب عليه.
بالإضافة إلى أنه يتطلب مبالغ مالية طائلة وأدوية ومعدات خاصة لا تتوفر الآن في قطاع غزة بسبب الحرب، وليس ثمة من طريقة لاستيرادها في الوقت المنظور.
يعتبر رائد الأرض كل حياته. وكان قبل الحرب يقضي جلّ وقته فيها. حتى في شهور الحرب الأولى، كان يزرعها محاولاً سدّ حاجات السوق المحلية وتوفير الخضراوات للمواطنين.
"خسارة الأرض كخسارة الروح. لا أتخيل شكل حياتي من دون أرضي التي ورثتها عن أبي وقضيت فيها طفولتي وشبابي، وورثت لأبنائي فيها مهنة الزراعة"، يقول رائد لرصيف22.
تربة ميتة
"تؤدي الغارات الإسرائيلية التي تطال الأراضي الزراعية إلى أضرار بليغة بالتربة. فتفقد هذه كل عناصرها الطبيعية التي تجعلها خصبة وناجحة في إنبات عدد كبير من أنواع الأشتال والبذور"، يقول المهندس الزراعي مهدي شبات لرصيف22. لافتاً إلى أن الكوبالت، والكاديميوم، والرصاص والنحاس والألمنيوم، هي من أبرز العناصر المعدنية السامة التي تسكن التربة بفعل المتفجرات وانبعاثات الصواريخ.
ويشير إلى أن المواد السامة التي تخرج من المتفجرات تعمل على قتل الكائنات الحية الدقيقة وتزيد من تركيز المعادن الثقيلة التي تفشل معظم الزراعات في الأرض المصابة.
علمياً، تسمى التربة المصابة بالتسمم بـ"التربة الميتة". وتحتاج إلى 5 سنوات من العلاج، في الأقل، لتصير صالحة للزراعة من جديد"، يضيف شبات.
من جهته، يؤكد مؤيد بشارات، رئيس اتحاد لجان العمل الزراعي الفلسطيني، أن استعمال الاحتلال الإسرائيلي للذخائر الخطرة والمحرمة دولياً خلال حربه على غزة، مثل الفوسفور الأبيض والقنابل الخبيثة، يفقد الأراضي الزراعية خصوبتها.
وأشار بشارات في حديث لرصيف 22 إلى أن الانبعاثات الصادرة من تلك المواد تؤدي لتسمم في التربة وتخرجها عن الخدمة وتجعل الزرع الذي قد يُنتج منها ساماً. مبيّناً أنه "سبق أن انتشرت فيديوهات توثيقية تُظهر أن القنابل الإسرائيلية حفرت حفراً بعمق نحو عشرة أمتار في الأراضي الزراعية، ما يعني أن التربة احترقت تماماً".
الأرض تشرب مياهاً مالحة وملوّثة
أما الأزمة الكبرى الأخرى التي تؤرق مزارعي قطاع غزة العاملين حالياً، فهي المياه المالحة والملوثة.
يروي المزارع الثلاثيني محمد المصري، من بلدة بيت لاهيا، أنه اعتاد ري محاصيله الزراعية في أرضه من بئر قديمة حفرها والده قبل أكثر من 40 عاماً.
"لكن الأمر اختلف هذا العام مع استمرار الحرب الإسرائيلية"، يستدرك محمد.
مشيراً إلى أن "الصواريخ الإسرائيلية والمواد السامة فيها، كذلك مياه الصرف الصحي التي تتجمع في الشوارع، تتسرب كلها إلى جوف الأرض وتختلط بالمياه الجوفية. فتصبح المياه المستخرجة عبر الآبار غير صالحة للاستعمال الآدمي أو لري المزروعات".
المواد السامة التي تخرج من المتفجرات تعمل على قتل الكائنات الحية الدقيقة وتزيد من تركيز المعادن الثقيلة التي تفشل معظم الزراعات في الأرض المصابة
"اكتشفت ملوحة المياه عند زراعة المحصول الأول في أرضي هذا العام. زرعت الكوسا، لكن المياه أتلفت جزءاً كبيراً منها. فخسرت مبالغ وضعتها استثماراً فيها دون أن أتمكن من حل المشكلة وتجاوزها"، يقول محمد لرصيف22.
ويوضح أنه حينما قرر زراعة أرضه مرة أخرى بالباذنجان والملوخية، بدأ في شراء مياه الري من بئر زراعية تبعد عنه مسافة 300 متر تقريباً.
"ذلك يرفع من كلفة الإنتاج على نحو كبير، لكني مضطر لذلك، لأن البديل سيكون في أن أجلس في البيت في انتظار انتهاء الحرب حتى أتمكن من إيجاد الحلول"، يضيف محمد.
أما المزارع صبحي الأسطل (62 عاماً) من بلدة القرارة في محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، فيقول إن "أزمة ملوحة المياه ليست وليدة هذه الحرب، فهي موجودة منذ سنوات بسبب ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وتعمده تلويث مصادر المياه الفلسطينية وسرقة كميات كبيرة من المياه الجوفية".
ويضيف صبحي، الذي لم يتمكن من الوصول إلى أرضه الحدودية منذ بداية الحرب خوفاً من الاستهداف الإسرائيلي: "كنت أنشط، كما معظم مزارعي البلدة، بزراعة النباتات الورقية كالبقدونس والسبانخ والسلق والجرادة الخضراء والجرجير. لكن محاصيل المزارعين تلفت بسبب ملوحة المياه".
ويردف قائلاً إن الكثير من المزارعين هجروا أراضيهم في السنوات الأخيرة، وتركوا زراعتها بسبب ملوحة المياه وخساراتهم المتكررة. ويضيف: " فاقمت الحرب من الأزمة وصعبت الأمر أكثر وأكثر مع تعمد الاحتلال تلويث المياه وزيادة ملوحتها ما يهدد كل القطاع الزراعي في غزة ".
ويؤكد مؤيد بشارات أن "المياه في غزة ملوثة قبل الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة. أما الآن فنحن نتحدث عن تدمير بنية الصرف الصحي واختلاط مياه المجاري مع المياه الجوفية التي تستعمل في ري المزروعات".
أزمة ملوحة المياه ليست وليدة هذه الحرب، فهي موجودة منذ سنوات بسبب ممارسات الاحتلال الإسرائيلي وتعمده تلويث مصادر المياه الفلسطينية وسرقة كميات كبيرة من المياه الجوفية
ويشير إلى أن "فحص نسبة التلوث والملوحة الجديدة في المياه الجوفية تحتاج لفحوصات دقيقة غير متوفرة الآن في غزة. ونحن ننتظر انتهاء الحرب لاكتشاف حجم الأزمة التي حلّت بالمياه".
وفي حديثه عن أثر ملوحة المياه وتلوثها على المزروعات يوضح بشارات أن ذلك "يؤثر على الأصناف المزروعة وينهي فرص زراعة الورقيات وبعض أصناف الخضراوات بشكل كامل، لأن الأشتال تموت بمجرد غرسها في الأرض وريها بالمياه الملوثة".
وبحسب بشارات، فإن المياه الملوثة التي تحمل شوائب وعناصر ثقيلة زائدة لا تعمل في الرشاشات الزراعية، ما يزيد الجهد والتكلفة على المزارعين. كما أن استعمالها بكثرة يمكن أن يترك آثاراً سلبية على الإنسان إذا ما نجحت بعض الزراعات بشكل استثنائي.
وفي هذا تدمير لبيئة الغزي الأولى، ولجسده أولاً. فإن لم يقتله صاروخ مباشر، يقتله مرض أو يضره سمّ ناتج عن تدمير الأرض والبنى التحتية والحصار المطبق على القطاع منذ ما يزيد عن عشرة شهور.
ويحكي الرجل الذي لم يتمكن من الوصول لأرضه الحدودية منذ بداية الحرب خوفاً من الاستهداف الإسرائيلي أنه كان برفقة معظم مزارعي البلدة ينشطون بزراعة النباتات الورقية مثل "البقدونس والسبانخ والسلق والجرادة الخضراء والجرجير"، مشيراً إلى أن كثير من محاصيلهم كانت تتلف بسبب ملوحة المياه.
ويردف الأسطل أنه في السنوات الأخيرة هجر كثير من المزارعين أراضيهم في البلدة وتركوا زراعتها بسبب ملوحة المياه وخساراتهم المتكررة، قائلاً إن "الحرب زادت من الأزمة وصعبت الأمر أكثر وأكثر مع تعمد الاحتلال تلويث المياه وزيادة ملوحتها ما يهدد كل القطاع الزراعي في غزة".
عودة لرئيس "اتحاد لجان العمل الزراعي الفلسطيني" مؤيد بشارات يقول "المياه في غزة ملوثة بالأساس قبل الحرب الإسرائيلية المندلعة في غزة والآن نحن عن تدمير بنية الصرف الصحي واختلاط مياه المجاري مع المياه الجوفية التي تستعمل في ري المزروعات".
ويضيف أن "فحص نسبة التلوث والملوحة الجديدة في المياه الجوفية تحتاج لفحوصات دقيقة غير متوفرة الآن في غزة، ونحن ننتظر انتهاء الحرب لاكتشاف حجم المشكلة التي حلّت بالمياه".
وفي حديثه عن أثر ملوحة المياه وتلوثها على المزروعات يوضح بشارات إلى أن ذلك "يؤثر على نوع الأصناف الممكن زراعتها وينهي فرص زراعة الورقيات وبعض أصناف الخضراوات بشكل كامل لأن الأشتال تموت بمجرد غرسها في الأرض وريها بالمياه الملوثة".
ويذكر أن "المياه الملوثة والتي تحمل شوائب وعناصر ثقيلة زائدة لا تعمل في الرشاشات الزراعية هذا ما يزيد الجهد والتكلفة على المزارعين، كما أن استعمالها بكثرة يمكن أن يترك آثاراً سلبية على الإنسان إذا ما نجحت بعض الزراعات بشكل استثنائي". عن الرصيف 22
No comments:
Post a Comment