نحو بيئة نظيفة وجميلة

test

أحدث المقالات

Post Top Ad

Your Ad Spot

Saturday, September 14, 2024

نخيل فلسطين التاريخية.. من أم الرشراش إلى دير البلح مروراً بأريحا وبيسان وحتى طبرية وحيفا

 الأراضي المقدسة الخضراء /GHLands 


عندما ندخل اليوم متجراً في فلسطين بحثًا عن التمور، فإننا سنجد أنفسنا غالباً نشتري صنف "المجهول"، إذا ما سألنا البائع عن أجود الأصناف. وغالباً، قد يدعي البائع أن التمور مصدرها أريحا (مدينة النخيل). في التقرير التالي سنكتشف من خلال رحلة في ربوع فلسطين، أن حكايا النخيل أقدم وأكبر، ومنها أصناف تكاد تنقرض مثل "نخيل الدوم" و"التمر الحلاوي". وسنجد أن هناك مدناً أخرى اشتهرت بزراعة النخيل غير أريحا، مثل بيسان ودير البلح، وإن كانت أريحا ملكة النخيل. وسنجد أن بعض المناطق لم يبق من نخيلها سوى بضعة أشجار زينة على أطراف الطرق مثل حيفا وقيساريّة، بعد أن كان نخيلها يُبهر الرحالة في قديم الزمان.


بيت بيّارة تزيّنه ثلاث أشجار من النخيل بالقرب من بيت بين أراضي كفربرا وعرب المويلح عند نهر العوجاء - تصوير عمر عاصي

 أم الرشراش ونخيل الدوم

نبدأ رحلتنا مع النخيل من أقصى الجنوب، من "أيلة" كما تسميها المراجع القديمة، وحيث اليوم أم الرشراش والعقبة، ولكننا لن نتحدث عن النخيل الذي نعرفه، بل عمّا يُسمى "نخيل الدوم" وباللاتينية Hyphaene thebaica، وهو من الأشجار النادرة، ويتم الاعتناء به بشكل خاصّ في مدينة العقبة الأردنية.[1] تذكر التقارير أن نخيل الدوم كان من الأشجار الأصيلة في العقبة، ولكنه تعرض للانقراض، ولم يبق منه سوى 16 نخلة، بات الحفاظ عليها مهمة ضروريّة لحفظ التوازن البيئي من الاختلالات والحفاظ على المشهد الجميل الذي يمنحه هذا النوع النادر.[2]

في فلسطين التاريخية، يذكر الباحث خالد عودة الله خلال إحدى جولاته في منطقة عين الدافيّة هذا النوع من النخيل النادر: "عرجت على آخر ما تبقى من أشجار نخيل الدوم المصريّ أو السوداني في فلسطين التاريخية قرب عين الدافية (عفرونا عند الإسرائيليين). وقد تعرفتُ إلى الدوم للمرة الأولى، وشربتُ شرابه اللذيذ قرب حرم مولانا البدوي في طنطا في مصر. وفي بلادنا فلسطين، يُطلق اسم الدوم على أشجار النبق والسدر المنتشرة في الكثير من المناطق.[3]

بئر السبع.. و"لغز التمر"!

رغم ندرة نخيل الدوم في عيون الدافية وجنوب فلسطين التاريخية، إلا أن الصحراء والواحات تعتبر من أفضل مواطن النخيل في بلادنا، وعند البحث في الموروث الغذائي للبدو نجد أن التمر مادة غذاء أساسية لا غنى عنها، وهي حلوى فريدة، بل يُمكن أن تتحول لما يُعرف بـ "سوبر فود"!

يؤكد غوستاف دالمان في موسوعته "العمل والتقاليد في فلسطين"، بأن التمر هو الحلوى الأكثر أهمية في الصحراء، ويطبخ البدو التمر مع السمن ويطبخونه على هيئة ثريد من تمر وقمح مسلوق وسمن، ومن نوادر البدو مع التمر لغز أو أحجية يتناقلونها: "الميت خشب وتابوته عسل."[4]

هذا الانبهار بالتمر وخصائصه يظهر من خلال أكلة المختوم، وهي كما يصفها حازم العزازمة[5] في مجموعة تراث بادية النقب (حضارة، جغرافيا وتاريخ): "تمر مهروس وينطبخ في زيت زيتون في قدر مع عجن كل مرة ويضع عليه أهم شي الحبة السمرة (البركة) ومنهم من يضيف عليه عدة أنواع من المكسرات، كاللوز والفستق والسمسم والصنوبر، وعادة يعمل المختوم للنفسة (للوالد جديد)، وهي ذكرى بمريم بنت عمران، عندما أتاها المخاض فهزت جذع الشجرة فنزل عليها التمر".

عين زغر وعين جدي وتمرٌ كالعسل!

نُكمل شرقاً حيث بحيرة لوط أو البحر الميت كما نعرفه اليوم، وهي بلاد اشتهرت مُنذ القِدم بنخيلها الكثير والمميز. يذكر الدبّاغ في كتابه الفريد "المملكتان النباتية والحيوانية في بلادنا فلسطين"، بأن منطقة زُغر (غور الصافي)، كانت مشهورة بتمرها المسمى بٌسْر ووحداته بُسْرة، ويقال له الانقلاء. وينقل لنا أن الرحالة والجغرافي ابن حوقل (972م) قال عن هذا التمر قبل نحو ألف عام: "لم أرَ بالعراق ولا بمكان أعذب ولا أحسن منه منظراً، كأن لونه الزعفران لا يغادر منه شيء، ويكون أربعة منه شبراً ومن التمر (البرني) أصفر مدوّر وواحدته برنيّة".

في نفس السياق، يذكر الدبّاغ بأن هيرودوس الكبير قدّم لأغسطس الروماني هدية من أحسن ثمار النخيل، وكان حلواً كالعسل، وكان حجمه كبيراً جداً، حتى إذا وضعنا أربعة منه جنباً إلى جنب بلغ طوله ذراعاً. 

إلى الشمال من عين زغر حيث عين جدي على الشاطئ الغربي للبحر الميت، لا بُد أن نذكر بأن أحد تسميات عين جدي القديمة كان "حصون تامار"، بمعنى "كثيرة النخيل".


خريطة لمناطق ارتبطت بالنخيل من كتاب مصادر الاقتصاد الفلسطيني لشكري عراف

 دير البلح.. أرض النخيل الحزين

قبل أن نُكمل إلى أريحا (مدينة النخيل)، لا بُد أن ننتقل إلى الجهة الأخرى من "البلاد" حيث "دير البلح" في قطاع غزّة، التي سمّيت كذلك لكثرة أشجار النخيل فيها، علماً أنها عُرفت في فترة تاريخية سابقة بـ "الداروم".[6]


صورة قديمة من مدينة دير البلح - غزة أيام زمان[7]

كان الفلسطيني في الماضي يُراقب السماء، ويترقب موسم البلح من خلال البحث عن نجم سهيل، فيقول: "في سهيل بهيل البلح هيل"، باعتبار أن موسم البلح والتمور مرتبط بظهور نجم سهيل. وفي دير البلح معلوم أن البلح ينضج بعد 15 تشرين الأول/أكتوبر، وله أنواع كما يذكر الباحث سليم عرفات المبيض، ومنها "بنت عيش، وهو الذي يصنع منه أهالي غزة المربى، ونوع يُدعى الحياني، وهو أجود الأنواع، لأنه ثمرته طويلة ومعتدلة وغليظة، وفي قطاع غزة ينادي الباعة: "حياني يا رطب".[8]


منشور حول التمر الحياني على صفحة ممدوح أبو غليون على "فيسبوك"

النخيل لم يُستخدم للغذاء فقط، إذ نجد ونحن نفتش عن حكاياه في غزّة، أن أهلنا هناك قد استخدموا السعف والألياف مادة للوقود، كما استخدموه في صناعة الكراسي، وكذلك استفادوا من سعفه في المُعرشات لتقيهم الحر أيام القيظ. واستخدموه في صناعة أطباق الزينة، ومن قنو البلح صنعوا المكانس، ومن أليافه صنعوا الحبال، وهذا غير الكر، وهي أشبه بشبكة توضع على ظهور الإبل والدواب، وأيضاً القفير من السعف لحفظ العجوة، ويضيف المبيض: "ولا ننسى الممشة التي ينظفون بها القهوة بعد طحنها في الهون، ويأكلون أخيراً الجمار، وهو التكوين الداخلي لرأس النخلة عندما يقطعونها".[9]

هذا كُله يؤكد أن النخيل كان جزءاً من الحياة اليومية، ولا عجب بعدها أن نجده يدخل في أمثال الناس في قطاع غزة فيقولون "فلان مثل العجوة" إذا اجتذبهم، بل وأكثر من ذلك، فالعديد من الدراسات، تؤكد بأن النخلة كانت رمزاً للحياة عند الفلسطيني (شجرة الحياة).

دير البلح وخانيونس، كانتا من أكثر المناطق زراعة للنخيل والبلح على مستوى فلسطين. وبعد حرب طوفان الأقصى (2023) والدمار المهول والقتل والتشريد الذي تسببت به آلة الحرب الإسرائيلية، تدمرت العديد من المنشآت المائية والبيئية والزراعية. ولا ندري حجم الضرر الذي لحق بحوالي 200 ألف نخلة. في قطاع غزة، بدأت الحرب مع نهاية موسم البلح واستمرت إلى الموسم التالي، حيث تعيش دير البلح وخانيونس عمليّات قصف وتهجير مستمرة! [10]

بيت لحم.. ونخلة مريم!

في الطريق من دير البلح إلى أريحا، لا بُد أن نمر عن القدس وأريحا، وأن نتذكر مريم بنت عمران، التي ارتبط ذكرها في القرآن الكريم في الآية: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيا)، وبالتالي نجد أن هذه النخلة التي يرتبط ذكرها ببيت لحم، قد صارت من أشهر أمثال العرب، فيقولون: "أعظم بركة من نخلة مريم".[11]

ارتبط النخيل بالكثير من العادات والمعتقدات، فنجده حتى اليوم مرتبط بالصيام في رمضان، بحيث يكون التمر والماء أول ما يفطر عليه الصائم. ومن العادات التي كانت سائدة في الماضي، أن يُسقى الأطفال بعد الولادة بضع نقاط من نقيع البلح، ويُعتقد أن سبب حب المسيح لأمه ناتج عن البلح الذي كانت تغذيه به.[12]

أريحا.. مدينة النخيل "المجهول"

نصل إلى أريحا، حيث كانت واحدة من محطات البستنة في فلسطين التاريخية حتى قبل نكبة 1948، في هذه المحطات كانت تجرى أبحاث زراعية فريدة، فخلال البحث و"التنقيب" في الملحقات الزراعيّة الفلسطينية من 21 تشرين الأول/أكتوبر 1937، نجد أن العاملين في المحطة قاموا بتجارب زراعة أصناف من النخيل العراقي الصغيرة (كالخضراوي والحلاوي والشغنطر)، فحملت باكورة ثمارها، وكان ثمر الصنفين الأخيرين صغير الحجم لذيذ النكهة.[13]

يُشير الباحث في مجال النخيل نعيم العيساوي، إلى أن زراعة النخيل في أريحا بدأت بالتراجع والانهيار عام 1967، بسبب إغلاق الأراضي الزراعية، بحجة أنها مناطق عسكرية وبسبب سيطرة الإسرائيليين على المياه. ولم يتوقف هذا التدهور إلا عام 1993، حين تم تهريب شجرة نخيل تمر المجهول من المغرب إلى كاليفورنيا، ثم إلى المستوطنات الإسرائيلية. وبفضل الغيورين على "النخلة" من أبناء فلسطين، تم تحقيق قفزة نوعية في هذا المجال. وفي عام 2015، كان عدد أشجار النخيل الفلسطينية يفوق الـ 400 ألف، وأما التمور الفلسطينية فقد وصلت إلى 40 دولة حول العالم.[14]

رغم هذه القفزة النوعية، نجد فريد طعم الله من مجموعة "حكي القرايا" يكتب لنا عن صعوبات تسويق التمر الفلسطيني، بسبب إغراق الأسواق بالتمور المهربة من المستوطنات. ويضيف طعم الله: "يواجه المزارعون الصغار مشكلة كبيرة بسبب عدم توفر ثلاجات لتخزين التمر وحفظه من التلف، ما يضطر معظمهم إلى بيع المحصول للتجار بأسعار التكلفة. أما تصدير التمر الفلسطيني، فيمر بسلسلة معقدة من القيود الإسرائيلية"، ولهذا فإنه يدعو إلى الشراء من المزارعين مباشرة من خلال مبادرات مثل "سوق الفلاحين" حيث يبيع المزارع جمال نجوم أنواعاً مختلفة من التمور، مثل التمر المجهول، والبرحي، والحياني. ويختم: "وقف سياسة ضم الأغوار هي البداية لدعم مزارعي الأغوار".[15]


المزارع خالد نجوم في سوق الفلاحين ساحة مركز البيرة الثقافي - مجموعة حكي القرايا

 


Elisha's Fountain Spring Jericho Clay Pots
https://farahe.wordpress.com/wp-content/uploads/2014/01/jericho-73704.jpg

بيسان.. عاصمة النخيل والينابيع

نُغادر أريحا إلى بيسان التي ذكرها الرحالة والجغرافي شمس الدين المقدسي قبل نحو ألف عام في كتابه البديع "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، فقال: "بيسان على النهر كثيرة النخيل، وأرزاز فلسطين والأردن منها، غزيرة المياه رحبة، إلا أن ماءها ثقيل".[16]

بعد زيارة شمس الدين المقدسي بنحو مئة عام، يزور بيسان أحد الحجاج الروس خلال الفترة الصليبية (سنة 1107م تحديداً) واسمه دانيئيل، فيذكر "غابات النخيل" فيها بقوله: إنها مكان مخيف وخطر، تجري حولها أنهار، وعلى ضفافها غابات النخيل، عبورها خطير جداً، وتعيش بها أعداد كبيرة من العرب الأقوياء، وفيها أسود، وتمتد بينها وبين النهر مساحات واسعة من المستنقعات".

توفي شمس الدين المقدسي عام 991 تقريباً، ليأتي جغرافي آخر بعده يُدعى ياقوت الحموي، الذي وُلد سنة 1178، فيزور بيسان، ويقول عن نخيلها: "رأيتها مراراً، فلم أرَ فيها غير نخلتين حائلتين". والمثير أنه يربط ذلك بعلامات القيامة، وما يُعرف بـ "خروج الدجال"، و"حديث الجساسة"، الذي يذكر نخيل بيسان، بقوله: "يوشك ألا تثمر". هذا الحديث جعل "نخيل بيسان" لم ينحصر في كونه محصول زراعي، أو حتى اقتصادي، أو جغرافي، بل تجاوز ذلك إلى ارتباطه بحدث مهول، مثل "أحداث القيامة"، بناء على ما جاء في بعض المراجع الإسلامية".[17]

مزارع النخيل في قرية الخنيزر المهجرة قضاء بيسان[18]

بالعودة إلى الزراعة والجغرافيا و"رحلتنا"، نجد أن بيسان، لا تزال حتى اليوم تُزرع بالنخيل، وقد أطلق عليها المؤرخ مصطفى كبها لقب "عاصمة النخيل والينابيع"،[19] لكثرة النخيل والينابيع فيها التي تعتبر من أهم الوجهات السياحيّة في فلسطين التاريخية، مثل ينابيع الساخنة في حوض وادي جالود. ووفقاً للمراجع الإسرائيلية، فإن "الحياني" من أكثر الأصناف التي تنمو في هذه المنطقة، وهو نفس الصنف الذي ينمو بكثرة في دير البلح. من اللافت هنا، أن نشير بأن الصنف الحياني يُشكل 4% من سوق النخيل "الإسرائيلي"، بينما صنف "المجهول" يُشكّل حوالي 75%، وتصل كميّة إنتاج المجهول الذي يزرع أيضاً في بيسان وغيرها من المناطق إلى 40 ألف طن، ويتوقع أن يصل الإنتاج إلى 100 ألف طن.[20]

وقبل أن نغادر بيسان، لا بد من الإشارة إلى أن مزارع التمور الإسرائيلية في منطقة بيسان، أقيمت على أراض لأكثر من 30 قرية فلسطينية تم تهجير أهلها منها.

طبرية.. غزو "المجهول"!

سيطرة التمر "المجهول" على مزارع كثيرة في بيسان ليس وردياً تماماً، كما يؤكد تقرير لمجلة "كلكليست" الاقتصادية الإسرائيلية. في الصحافة التقليدية يتم تصويره غالباً كقصة نجاح إسرائيلية، وقد وصل بالفعل حتى إلى بلاد عربيّة، مثل المغرب والإمارات، بل إن الكثير من المسلمين حول العالم يفطرون على تمور المجهول الإسرائيلية، وهم لا يعلمون ذلك.

فما المشكلة؟ وفقاً لخبراء إسرائيليين، فإن المجهول تمر مطلوب عالمياً، وأسعاره مرتفعة، وحجمه كبير، ويتوافق مع "الذوق العام" الإسرائيلي والغربي، وبالتالي فإن الكثير من المزارعين "يهرعون" إلى زراعته بدلاً من الأصناف المحلية أو البلدية، فالكثير من الأشجار تقلع كي تفسح المجال للمجهول.

يقول أحد الخبراء، بأنه التمر المجهول يمكن اعتباره بمثابة "نوع غازٍ"، لأن تزايده أصبح على حساب الأصناف الأخرى القديمة، مثل الخضراوي والزهيدي والحيّاني والحلاوي، التي انحسرت بشكل كبير، وغالباً لم تعد تُزرع إلا في مزارع قليلة في محيط طبريّة وبيسان، لارتباطها بالصناعات الغذائية المرتبطة بالتمور.[21]

"الحلاوي" أحد الأصناف المهددة بالاختفاء فعلياً، إذ يعد صنفاً حساساً للغاية وله أصول في العراق. له طعم شبيه بالكراميل والعسل. ومن المعروف أنه أصغر حجماً مقارنة بأنواع التمر الأخرى.[22] وفقاً لتقرير "كالكليست" الإسرائيلي، فإن أحد الخبراء يُشير إلى أنه سيتم اقتلاع أشجار النخيل، وبالتالي فهو نفسه لا يدري أين يُمكن العثور على التمر الحلاوي، و ليس هناك مفر، فهذه الأصناف غير مُربحة مثل الصنف المجهول.


مشهد لبحيرة طبرية [23]

من اللافت أن الذي يُنقذ الأصناف المحليّة -وفق مصادر إسرائيلية- هم الفلسطينيون الذي يستهلكون أصنافاً مختلفة من التمور لا تتماشى بالضرورة مع "الذوق الغربي" المُنبهر بالتمر المجهول "كبير الحجم".[24] وبالفعل فالكثير من العادات الغذائية في فلسطين ترتبط بتناول التمر على الإفطار في رمضان، وكذلك فإن الكعك في الأعياد المختلفة يعتمد على العجوة بشكل كبير. هذا غير عادات، مثل تناول مشروب التمر الرطب مع الحليب، والأطباق مثل المختوم التي يصنعها أهالي ديرة بئر السبع. كلها تعتمد على أصناف تمور "قديمة" مثل الحياني. وحتى عندما نبحث أكثر في التراث، نجد أن صنف النخيل من النوع الزغلولي كانوا يصنعون منه القفف والمقاطف والأطباق والمذباب (لطرد الذباب) والحصر والحبال والمكانس.[25] كلها كانت تعتمد على هذا الصنف. وهنا، جدير بنا العودة لمثل هذه المنتجات، بالأخص في عالم يطمح للتخفيف من البلاستيك والتحول إلى المنتجات العضوية من مواد حيوية.

عكا وحيفا.. وبقايا نخيل!

نصل إلى محطتنا الأخيرة، عكا وحيفا حيث نجد أشجار النخيل متناثرة. كثير منها يُستخدم كأشجار زينة للشوارع، علماً أن التغييرات المناخيّة جعلت الكثير من مخططي المدن يسعون إلى استبدال النخيل بأشجار أخرى تُعطي ظلاً أكثر، وهذا بالطبع يجعلنا نفكّر، كيف تقّزم دور شجرة النخيل لتكون مُجرد شجرة زينة في الشوارع!

عندما نتبحر في صفحات التاريخ نجد رحّالة، مثل شمس الدين المقدسي وناصر خسرو، قد شاهدوا في رحلاتهم لفلسطين أشجار النخيل الكثيرة في منطقة حيفا والكرمل وحتى قيساريّة. بعد حوالي ألف عام تغيّر المشهد تمامًا. بالأحرى، فإن الوضع -كما تكشف الخرائط الإنجليزية- قد تغيّر بشكل كبير بعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين التاريخية. ففي خرائط 1940 يظهر أن المنطقة الشرقيّة من مدينة حيفا -حيث كانت بساتين حيفا وعلى ضفاف نهر المُقطع (الكيشون)- كانت تضم أعداداً كبيرة من أشجار النخيل، التي اختفى أكثرها عندما تحوّلت كل المنطقة إلى واحدة من أكثر المناطق تلوثاً على مستوى فلسطين التاريخية، وهي منطقة صناعية فيها العديد من الصناعات البتروكيماوية، ويصفها البعض في حيفا بأنها "منطقة السرطان"!


خريطة لبساتين الرمل في حيفا قبل أن تتحول لمنطقة صناعية ملوثة - من موقع خرائط فلسطين المفتوحة![26]

ليس غريباً أن نجد بعد هذا كله، أن عكّا القريبة اشتهرت بحلوى "التمريّة" التي تدخل عجوّة التمر في صناعتها، كذلك نجد حكاية في الجليل مفادها، أن وادي المجنونة -قرب قرية الغابسية في قضاء عكا- سُمي كذلك بسبب نخلة، فالمجنون هو النخل المفرط في الطول، كما يقول اللوباني في "معجم النبات".[27]


نموذج منشور يدعو لمقاطعة التمور الإسرائيلية في المغرب[28]

في ختام هذه الجولة، لا بُد من التأكيد على أن النخيل في فلسطين قطاع زراعي إستراتيجي. وليس عبثاً أن يُسميه بعض خُبراء الاقتصاد الزراعي بأنه "بترول فلسطين"، أو حتى "الذهب الأسود"،[29] فهو يؤدي دوراً هاماً في صمود المزارع الفلسطيني في الأغوار بوجه كل مخططات الاحتلال للسيطرة على الأرض والماء. هذا غير الحرب الخفية التي يخوضها ضد اكتساح التمور الإسرائيلية للأسواق العربية، بل والفلسطينية.


المصدر : مجلة آفاق البيئة و التنمية 

No comments:

Post a Comment

جودة البيئة: تقديم مستلزمات بيئية وزراعية دعما للمناطق المهددة بالاستيلاء عليها

 الأراضي المقدسة الخضراء /GHLands أحيت سلطة جودة البيئة، اليوم العربي للبيئة تحت شعار: "إعادة تأهيل الأراضي لتعزيز القدرة على الصمود&qu...

Post Top Ad

Your Ad Spot

???????