الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
لم يكن الوصول إلى أعماق البحر الميت مهمة سهلة للفريق البحثي العلمي المتخصص في مركز هيلمهولتز للأبحاث البيئية في ألمانيا.
يعد هذا المركز واحد من أكبر المنظمات البحثية الرائدة في ألمانيا (وفقًا للمعايير الدولية) ويساهم في تقديم الحلول والتقنيات للعالم لمكافحة الأمراض وتغير المناخ وثورة الكم.
فقد تطلب الغوص أوزانًا إضافية وصلت إلى 100 كيلوجرام من الأوزان لكل غواص للتغلب على الطفو العالي لمياه البحر الميت.
قبل عملية الغوص تلك، لم تكن هناك أي مؤشرات على وجود المداخن البيضاء في البحر المالح، إلا أن عملية اكتشاف حديثة غيرت النظرة تجاه هذا المسطح المائي الذي شغل العلماء عبر تاريخ علوم البحار في العصر الحديث.
وقدم هذا الاكتشاف الذي أثار اهتمام المجلات البحثية العلمية وغير المعروف سابقًا نوعًا جديدًا من المداخن البحرية التي تتكون من الهاليت وتنمو في قاع البحر الميت عالي الملوحة.
والهاليت نوع من الأملاح الطبيعية المكونة من كلوريد الصوديوم، وتتشكل نتيجة عملية تبخر المياه المالحة المشبعة، مثل مياه البحر الميت.
عندما تتبخر المياه، تترسب بلورات الهاليت بشكل فوري، مشكلة تكوينات ملحية تتميز ببلوراتها المكعبة وأحيانًا بأشكالها الهشة أو الإبرية.
وقال كريستيان سيبرت أستاذ علم الهيدرولوجيا في مركز هيلمهولتز للأبحاث البيئية في ألمانيا والذي قائد فريق علماء البحث الذين كشفوا عن وجود هذه المداخن في مقابلة خاصة لـ سوسنة “تعد المداخن اكتشافا مهما بحد ذاته، وهي تشير إلى وجود العديد من العمليات على الأرض التي لا نعرفها بعد. ومع ذلك، يبدو أنه عند حدوث المخاطر الجيولوجية، يجب توثيق الظاهرة بشكل أوسع باستخدام جميع المنهجيات المتاحة”.
بدأ فريق دولي مكون من عشرة علماء من عشر مؤسسات مختلفة مغامرتهم العلمية لفهم أحد أكثر الظواهر الجيولوجية غموضًا، مداخن الهاليت في البحر الميت، ويقع ضمن حفرة الانهدام العظيم في أخفض نقطة على سطح الأرض بين الأردن وفلسطين، والبالغة مساحته حوالي 650 كيلومتر مربع.
“قام الفريق بالغوص إلى موقع المداخن، وجمعنا عينات من المياه المالحة والمياه الجوفية، إلى جانب المواد الصلبة المكونة للمداخن”. أضاف سيبرت.
ويشير إلى أن الفريق اعتمد على تقنيات علمية متنوعة، منها تحليل العناصر الكيميائية الأساسية، وفحص النظائر المشعة مثل الكلور-36 والكربون المشع، بالإضافة إلى تحليل الحمض النووي الريبي الميكروبي (RNA)، الذي يتيح فهم الأنشطة الميكروبية المحيطة بهذه الظاهرة.
أما لدراسة تكوين المداخن نفسها، يقول سيبرت “استخدمنا وسائل متقدمة مثل التصوير المجهري للشرائح الرقيقة والفلورية، إلى جانب التصوير الإلكتروني الماسح (SEM) والتصوير المقطعي بالحاسوب، مما أتاح تحليلًا دقيقًا لبنيتها وتفاعلاتها الحيوية.
ويوضح سيبرت أن أصل هذه الدراسة كان في محاولة لفهم ينابيع المياه الجوفية تحت البحر،
مشيرًا إلى أن الفريق بدأ بتحليل مسارات تدفق المياه الجوفية العذبة ومصيرها عند اختلاطها بالمياه المالحة في أعماق البحر الميت.
تتشكل المداخن نتيجة تدفق المياه الجوفية المالحة المشبعة بالهاليت من قاع البحر الميت إلى المياه المالحة المحيطة.
هذا التدفق يؤدي إلى تفاعل كيميائي عند الواجهة بين المياه الصاعدة ومياه البحر، مما يسبب ترسيبًا فوريًا للهاليت، وتكوين المداخن التي يصل ارتفاعها إلى عدة أمتار، حسب الدراسة
“ساينس أوف ذا توتال انفايرومنت” .
أن هذه العملية يمكن أن تحدث بوتيرة تصل إلى سنتيمتر واحد يوميًا عند إزالة قمة المدخنة ومراقبة نموها مجددًا، أضاف.
ولم يكن الوصول إلى هذه المداخن سهلاً.
ويضيف “واجه الفريق صعوبات أخرى مثل الطين الثقيل على اليابسة، ودرجات الحرارة العالية التي أثرت على الغواصين والمعدات، بالإضافة إلى المخاطر الناتجة عن التلامس مع المياه المالحة التي قد تسبب العمى إذا وصلت إلى العينين”.
توضح الدراسة أن المداخن لا تشكل خطرًا مباشرًا، لكنها تمثل مؤشرًا قويًا على النشاط الجيولوجي في المنطقة، حيث يشير وجودها إلى عمليات إذابة مكثفة للهاليت تحت السطح.
وهو ما يؤدي إلى انهيارات أرضية تظهر على شكل حفر انهيارية.
وبما أن هذه المداخن تُعتبر مؤشرات فعّالة لتحديد المواقع التي تحتمل تشكيل الحفر الانهيارية في المستقبل، فإنها تشكل أداة تنبؤية قوية يمكن استخدامها لمراقبة المناطق المعرضة لهذه المخاطر.
وعن خطرها البيئي، يشير إلى أن هذه المداخن ترتبط بشكل غير مباشر بتدهور البيئة المحلية.
ومع الانخفاض المستمر في منسوب البحر الميت بسبب الأنشطة البشرية، قد تزداد المخاطر المرتبطة بهذه التكوينات.
يذكر سيبرت “نخطط لاستكمال الأبحاث واستكشاف أعماق أكبر في البحر الميت، وقدمنا طلبًا لمشروع جديد”.
كما تشير الدراسة إلى أن هذه المداخن ليست محصورة بالبحر الميت فقط، بل من المحتمل وجودها في بيئات شديدة الملوحة حول العالم، حيث تتفاعل المياه الجوفية والمالحة بتكوينات كيميائية مختلفة.
No comments:
Post a Comment