الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
أجواءٌ ملبدة بالغيوم، ونسائم لطيفة تداعب وجوهنا، الظلام ينقشع والفجر الجديد يبزغ، والضباب يغطي بيوت بلدة سلواد التي تبعد 14 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي لمدينة رام الله، التي وصلنا مشارفها بعد ثلث ساعة من سفرنا؛ عقب مغادرتنا مدينة رام الله.
مسار الرحلة يحدده دليلنا عبد الفتاح الذي قال لنا: "يبدأ مسارنا على مشارف قرية سلواد، وصولاً لخربة كفر عانة ومن ثم التوجه لقرية يبرود وبعدها برج البردويل، ومن ثمَّ البلدة القديمة في يبرود."
حطّت بنا الحافلة قرب طريق ترابية واتجهنا شمالاً، وكانت بلدة سلواد على يميننا وبلدة يبرود على يسارنا، سرنا في طريق كانت أشجار التين والزيتون تنمو على جنباتها، فقطفنا بعضاً من ثمار التين الذي ما زالت قطرات ندى الصباح تتجمع على أوراقه، وبعد مسيرة حوالي كيلومتر وصلنا لخربة مهجورة ومدمرة اسمها "كفر عانة"، علماً أن هناك قرية مهجرة قرب يافا تحمل الاسم نفسه.
![]() | ![]() |
خربة كفر عانة أو كفر ناتا
تقع خربة كفر عانة ضمن أراضي سلواد الجنوبية، هذه القرية الفلسطينية المهجرة والمدمرة منذ عام 1834م، وهي في الأصل عبارة عن قرية عربية إسلامية كانت عامرة بأهلها في مختلف العصور العربية الإسلامية، وعُرفت باسم "كفر ناتا"، وقد ورد ذكرها في كتب الأدب الجغرافي العربي.
ففي أوائل القرن الثالث عشر الميلادي، ذكرها ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان"، في معرض حديثه عن يبرود وعين يبرود، وقال إنها تقع على السكة - أي الطريق الرئيس أو العام- بين نابلس والقدس، وأراضيها ذات كروم وسماق وزيتون.
ومن معاينة آثارها وما تبقّى من مبانيها يمكن الاستدلال على أنها بقيت قرية عامرة، بعد الفتح الصلاحي للقدس عام 1187 م، في العصور الأيوبية والمملوكية والعثمانية، وقد ذُكرت في الدفاتر المفصلّة العثمانية الخاصة بلواء القدس، والتي فيها ذُكر عدد الخانات ومقدار الضرائب والخِراج على المحاصيل المختلفة، إضافة إلى الرسوم وغير ذلك، وبقيت كذلك حتى حوالي عام 1834م.
![]() | ![]() |
أخرج أهالي سلواد سكانها منها، نظرا ًلتكرار اعتداء مجموعة منهم على المسافرين وابتزازهم لهم، وقد استغل أهل سلواد فرصة ضعف "صفّ اليمن" الذي تزعمه آل أبو غوش، الذي انضم إليه أهل كفر عانة، في أعقاب الثورة التي نشبت في فلسطين ضد الحكم المصري (إبراهيم باشا)، للانتقام من أهل كفر عانة وتأديبهم جراء أفعالهم، مستعينين بآل السمحان زعماء "صف القيس" في جبال غربي القدس، ومركزهم رأس كركر، فتقدموا نحو كفر عانة وحاصروها، وأخرجوا سكانها، ولم يأخذوا إلا ما حملته أنفسهم أو دوابهم، ولجأوا إلى قرية رمون حيث ما يزالون هناك حتى يومنا هذا، وبعد إخراجهم اقتسمت عائلات سلواد أملاكهم واراضيهم.
وجدنا بقايا جدران وعقودًا مهدّمة، ومن الواضح أن القرية كانت تنعم بالحياة بدليل وجود أشجار السماق والتين حولها والمنتشرة بكثرة، ولا شك أن يد سارقي الآثار قد عبثت بها وخرّبت، بحثاً عن الآثار.
من أسطح مبانيها المهدمة أخذنا نرقب شروق الشمس، الذي يظهر حيناً ومن ثم يختفي أحياناً أخرى وراء الغيوم الكثيفة. وبعد أن أمضينا فيها وقتاً وأكلنا من ثمار أشجار التين توجهنا نزولاً نحو برج البردويل، من خلال موارس الزيتون التي رأينا ثمارها الوفيرة مبشّرة بموسم جيد.
دخلنا بلدة يبرود ومررنا في شوارعها، وبمحاذاة مدرسة يبرود الأساسية المختلطة، وكما أسلفت، توجهنا نحو برج البردويل عبر طريق ترابية، ومررنا بمحاذاة قصور المناطير، التي كان يبنيها المزارع الفلسطيني ليكون قريباً من حقوله في مواسم التين والعنب والزيتون، فكانت عبارة عن مراكز حراسة، وتميزت بطابعها المعماري الفريد، حيث كانت تعتمد الشكل الدائري في البناء وبعضها يتكون من حُجرة، وأخرى من ثلاث حجرات وعلى سقفها "العلّية"، ولكن يا للأسف يتجه هذا الإرث نحو الانقراض نتيجة تخريب الرعاة أو العابثين له وهدمه، وبالتالي يجدر بالمعنيين في وزارة السياحة والآثار الانتباه والاهتمام بهذه القصور وإعادة إحيائها.
![]() | ![]() |
مشاهد الجبال والسهول والقرى المحيطة بدت رائعة رغم الضباب الذي يلّفها، وصلنا إلى برج البردويل الذي زرناه أكثر من مرة وهو عبارة عن مبنى حجري وعقود مدببة من الداخل، وكان عرضة للهدم والتخريب عبر الزمان، وبسبب إهمال المكان ينتشر حوله أشجار السماق، وحينها أخذ بعض منا يلتقط الصور، وبعض آخر يجمع السماق.
من هنا، كنا نرى بوضوح الشارع الرئيس الذي يحمل الرقم 60 ونطلق عليه عادة "طريق نابلس رام الله"، ورأينا مفترق "عيون الحرامية" الذي نفذَ فيه الفلسطيني ثائر حماد "قناص عيون الحرامية" من سلواد؛ العملية العسكرية المشهورة؛ حيث قنصَ وقتل عددًا من الجنود.
![]() | ![]() |
برج البردويل
يقع غرب بلدة سلواد، واسمه الحالي تحريف لاسم "حصن بلدوين" ملك بيت المقدس الفرنجي، بُنيَ مع بدايات الاستيطان الفرنجي في فلسطين، في موقع استراتيجي مميز على تقاطع الطرق بين شمال فلسطين وجنوبها.
للوهلة الأولى تنظر إلى الأرض المخضرّة الواسعة، يُخيّل لك أن السور الحجري المتهالك هو نهاية هذه الأرض، لكنك ما أن تقترب حتى ترى بُنيانًا حجريًا رهيبًا، تتواجد فيه بقايا عدة مرافق، منها كنيسة وآبار وغرف، وهذا المكان فيه كثير من العِبر وفيض من الجمال.
أطلق الإسرائيليون على برج البردويل اسم (بِشَنا)، ويرتفع 950 متراً عن سطح البحر، ووصفه شكري عراف: "برج البردويل قلعة صليبية حمت طريق القدس- نابلس، والاسم الصليبي للبرج هو (Villas de Cursu) أي برج الهرب من اللصوص، من القرن الثاني عشر الميلادي.
وأضاف عراف: "المبنى مربع الشكل، طول ضلعه 90 متراً، بقيت في القسم الجنوبي عقدة أنبوبية بعلو 4 أمتار، أما القسم الغربي فمهدوم، السور الخارجي للمبنى من حجر غشيم "غير منتظم الشكل" عدا الزوايا، فهي من حجر منحوت، الفخار من العصر الحديدي الثاني، ومن الفترة البيزنطية، ومن العصر الوسيط، ومن الفترة العثمانية".
غادرنا برج البردويل باتجاه بلدة يبرود، لكن في طريقنا عرّجنا على عزبة محمد عبد الحميد (أبو آدم السلوادي) الذي زرناه في أحد مساراتنا عام 2016 وفي حينه قدّم واجب الضيافة للفريق.
![]() | ![]() |
في أثناء مسارنا نزولاً في الطريق الترابية، ونحن نتجه غرباً كان يلوح من بعيد مبنى مستقل؛ من ثلاثة طوابق يتربع على تلة مرتفعة، مهيمناً على المنطقة بإطلالته وإحاطته الخلابة لكل ما يحيط به، ومسيّجًا بالأشجار المتنوعة من صنوبر وسرو وتين وزيتون، كنت تواقاً لزيارة هذه العزبة؛ ولحسن الحظ أن إدارة الفريق نظمت زيارة لها.
في الزيارات السابقة كان هذا المبنى وحيداً في المنطقة، وهذه المرة وجدنا أن هناك مبانٍ سكنية أصبحت مجاورة له، إلا أن الطبيعة أُفسدت بعد فتح الشوارع المؤدية للإسكان.
دخلنا من البوابة الخارجية لأرض هذه العزبة، وتوجهنا نحو استراحة مسقوفة ببلاط القرميد وعلى يمينها فرن حجري، وعلى يسارها قصر منطار، وأمامهم ساحة واسعة تتوسطها فيلا، مكونة من ثلاثة طوابق وعلى يسارها مبنى خدمات، وعلى سطحها خلايا شمسية لتوليد الطاقة النظيفة، وتبلغ مساحة أرض العزبة المُسيّجة عشرة دونمات.
قابلنا صاحب العزبة السيد محمد عبد الحميد "أبو آدم"، الذي ينحدر من بلدة سلواد ويملك محلاً للصرافة في رام الله؛ وقد أحرقت قوات الاحتلال الإسرائيلي محله، بعد اجتياحها رام الله والبيرة، عندما أحرقت الحسبة المركزية لبلدية البيرة التي أدت إلى احتراق مائتي محل تجاري؛ من ضمنها محله.
استقبلنا أبو آدم" بوجه بشوش مُرحباً بفريقنا، وتناولنا وجبة الفطور في ظلال عريشته، وقدَّم لنا التين والبوظة والقهوة، وبعد أن تمتّعنا بالإطلالات والمشاهد الطبيعة الخلابة، شكرناه بدورنا على استضافته لنا، وغادرنا المكان متوجهين لبلدة يبرود ومن ثم العودة إلى رام الله.
![]() | ![]() |
الوصول لبلدة يبرود
بعد أن غادرنا عزبة "أبو آدم" توجهنا في الطريق الترابية نزولاً وعلى يميننا في الأسفل بلدة عين سينا، وأمامنا بلدة يبرود، ثم انعطفنا يميناً، ومشينا وسط موارس أشجار الزيتون مستمتعين بالمشاهد الخلابة، وبدأنا صعود الجبل وسلكنا طريقاً ترابية تلتقي بالطريق الرئيسة ذات الانحدار الشديد، التي تصل يبرود بعين سينا، وقد أصبحت الطريق الوحيد، الذي يربط مدينة رام الله بقرى شمال شرق رام الله وصولاً لأريحا، منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023، ثم سرنا في الشارع باتجاه جامع البلدة، حيث كانت تنتظر الحافلة.
اجتمع الفريق وغادرنا عائدين إلى رام الله وكانت عقارب الساعة تشير إلى التاسعة والنصف صباحاً، بعد أن قطعنا مشياً عشرة كيلومترات.
كان المسار رائعاً حقاً، وعزَّز من سبل صمودنا على هذه الأرض التي تستمر سرقتها ونهبها وتهويدها وتخريبها؛ مع غياب المجتمع الدولي والقوة الرادعة للاحتلال وقطعان مستوطنيه.
![]() | ![]() |
نبذة عن بلدة يبرود
تقع يبرود إلى الشمال الشرقي من مدينة رام الله وترتفع عن سطح البحر حوالي 790 متراً، يصلها طريق داخلي يربطها بالطريق الرئيس، طوله 1.7 كم، تبلغ مساحة أراضيها 2431 دونماً، وتحيط بها أراضي قرى سلواد، عين يبرود وعين سينا.
وتضم عدداً من المواقع الأثرية، كمنطقة "برج البردويل" حيث سكن هناك أحد الحكام الصليبين إبان الحكم الصليبي في فلسطين، ويوجد في يبرود نبع ماء قديم جداً، حيث ذكره الأخطل الكبير في أشعاره.
كما يوجد في القرية مقام للشيخ يوسف أو ما يعرف باسم "النبي يوسف"، حيث يعود هذا البناء في تاريخه إلى أول دخول للإسلام في فلسطين، وكذلك يوجد مسجد قديم جداً يسمى "مسجد الشيخ صالح"، ويحتوي على أعمدة قديمة جداً، ويعتقد أنه بُني من أعمدة وحجارة كنائس قديمة وأبنية مسيحية، لأن يبرود كان يسكنها مسيحيون قبل الإسلام، وما يدل على ذلك وجود الكنائس المسيحية تحت الأرض.
![]() | ![]() |
أهم ما يميز قرية يبرود هو شجرة "البلوط" التي تقع وسط الشارع الرئيس للقرية، حيث يُقدّر عمرها بمئات الأعوام، وأيضاً فيها شجرة "الميسة" التي يُقدر عمرها نحو 4000 عام.
وترد عدة روايات لأصل تسمية القرية، الراجح منها هو أن كلمة "يبرود" أصلها آرامية، وهي مكونة من مقطعين هما "يب" ويعني الأرض المرتفعة أو ما ارتفع من الأرض، ويثبت ذلك أنها تقع على تلة مرتفعة، أما المقطع الثاني "رود" ويعني الأرض التي تحوي منطقة سهلة، حيث ينتشر إليها السكان.
![]() | ![]() |
No comments:
Post a Comment