الأراضي المقدسة الخضراء / GHLands
ولعل أبرز ما يؤرق الغزيون، هو البحث لعوائلهم عن حياة آمنة صحيًا وبيئيًا، وربما يعد ذلك "حلمًا" بعيد المنال؛ مع ما أفرزته الحرب من كوارث تفاقمت تبعاتها؛ بسبب الحصار الإسرائيلي ومنع أي محاولات للنهوض.
"تلال النفايات، ومياه المجاري، والطبخ على النار"، ثلاثية متصلة تحكي عن معاناة الناس عمومًا في القطاع، وأولئك الذين يعيشون في الخيام على وجه التحديد، باحثين عن حياة بلا أمراض، لكن كيف يتحقق ذلك؟ وكل الوقائع حولهم تُنذر بـ "كارثة لا تُحمد عُقباها".
ففي مقابلات أجرتها مراسلة "آفاق البيئة والتنمية" مع عددٍ من النازحين يقطنون في مخيمين عشوائيين وسط القطاع وغربه، تبيّن أن الأمراض تتربص بهم من كل جانب، ولكل واحدٍ منهم قصّة في ذلك.
فهذه هبة اعطيش من سكان حيّ الشجاعية شرق مدينة غزة، هجّرتها آلة القتل إلى دير البلح، وقد أثرّت الروائح الكريهة ودخان النار، وسوء التغذية، عليها لتُفقدها جنينها في الحرب.
![]() | ![]() |
أكوام قمامة على أبواب منتزة الشاطئ | أكوام قمامة وطفح لمياه الصرف الصحي في شوارع مخيم الشاطئ |
وتعيش هبة مع زوجها وأطفالها في بيئة شبّهتها بـ "القنبلة الموقوتة"، النفايات منتشرة، وتفوح منها روائح كريهة، عدا عما وصفته ساخرة بـ "شلال المجاري" العابر بين المخيمات، أما النار فهي "كوم ثاني لحاله" حسب تعبيرها.
تُخبر مراسلتنا: "نجونا من الصواريخ، لكننا ما زلنا نقاتل كي ننجو من شبح الأمراض المعدية"، منوهةً إلى أن أطفالها أُصيبوا أكثر من مرة بـ "نزلات معوية" وحساسية في الجلد رغم حرصها الشديد على نظافتهم.
وتشير إلى أنها فعلت كل ما بوسعها لحمايتهم، لكن "أنت في الخيام تُنظّف دون جدوى لأن البيئة حولك ممرضة"، مسترسلة حديثها: "ربما النار أكثر ما يؤرقني، هي السبب الرئيس في إجهاضي، لكننا لا نستطيع الاستغناء عنها مع انعدام البدائل. نستخدمها لطهي الطعام، للاستحمام، لفنجان القهوة، لرغيف الخبز ولكل شيء".
مثلها علا أبو غبن النازحة من الشيخ رضوان إلى دير البلح، أجهضت في الشهر السادس دون أن يتضح سبب ذلك طبيًا، غير أنّها تعرفه في قرارة نفسها، تتساءل ساخرةً بغضب: "ماذا يُمكن أن تعطينا هذه البيئة؟ أمان صحي؟ أم استقرار نفسي؟".
وتنصب العائلة خيامها على أرضٍ كانت في الأساس تجمعًا للقمامة، لكن لضيق الخيارات أمامهم، سارعوا إلى تنظيفها بما يستطيعون، إلا أن الروائح الكريهة تنبعث باستمرار، وإلى جانب دخان النار، هذا أدى كله لتفاقم ضيق النفس الذي تُعاني منه علا منذ سنوات.
إلى جانبها كان يجلس المسن خليل اعطيش (66 عامًا) وهو مريض بـ "سرطان الحنجرة"، لم تحرمه الحرب حقه المشروع في العلاج فقط، بل أضافت على كاهله أزمة صدرية حادة؛ بسبب الجلوس الطويل أمام النار، والبيئة الملوثة التي تُحيط بهم.
أما دعاء طشطاش (32 عامًا) وهي أم لطفلين نازحة من مشروع بيت لاهيا لمخيم الشاطئ، تقول إن الحشرات لا تفارق خيمتها، لأنها منصوبة بجوار تجمع لمياه متعفنة، كما أنها لا تملك "مرحاضًا" خاصًا بعائلتها، ما يضطرهم في أغلب الأحيان لقضاء حاجاتهم بـ "دلو" داخل الخيمة.
عند سؤالنا عن أثر البيئة المحيطة على صحتهم، تحدثت بعينين غارقتين بالعَجز: "فعلت بنا كل شيء، التهابات صدرية؛ أحيانًا لا أنام من السعال، سيلان بالأنف، وتقيؤ وإسهال وحرارة، وحساسية في العين، لكن ما البديل؟".
![]() | ![]() |
بركة مياه متعفنة بجانب خيمة عائلة طشطاش | تجفيف نبتة الخبيزة قبل طهيها على باب إحدى الخيم |
ولا يبدو أحمد أبو سيف أحسن حالًا من غيره، فهو الآخر يُعاني عواقب النار والتلوث البيئي، حتى إنّه بات يُفضل لزومَ خيمته كي لا يُصاب بأي ضرر، مشيرًا إلى أن "طفلتيه دائمتيّ الشكوى من أوجاع في البطن والتقيؤ والإسهال".
بينما هو يضطر أحيانًا للنبش في القمامة بحثًا عن "وقيد للنار".
يقول أبو سيف: "يصيبني لهاث دائم، وحساسية في العين، وحين أسعل يخرج من فمي مخاط أسود(..) أعرف أنني بحاجة لمراجعة طبيب، لكن بماذا سينفعني ذلك وأنا مضطر لعيش الروتين ذاته يوميًا؟".
جدير بالذكر أن جميع ضيوف التقرير يستخدمون البلاستيك والنايلون في إشعال النار للطهي، بدلاً من الغاز الذي يمنع الاحتلال دخوله القطاع، ورغم معرفتهم بأن هذا سيضعهم أمام خيارين: "المرض أو الموت" لكنهم يبررون: "خيار مضطر".
كما أنهم يحصلون على مياه غير آمنة للشرب، فتجد مركز توزيع المياه الرئيس يقف بين أكوام النفايات، بينما يضطر الناس لضيق المساحات، إلى وضع براميل المياه العذبة بجانب دورات المياه، وأحيانًا تكون مكشوفة بلا غطاء.
![]() | ![]() |
خيام المواطنين في منتزه الشاطئ | سيدة تطهو طعام عائلتها على النار .. محمود الهمص فرانس برس |
بماذا تُخبرنا الإحصاءات؟
يقول غسان وهبة، مدير عام الطب الوقائي بوزارة الصحة في غزة، إن مجموعة عوامل أثرّت على حياة المواطنين سلبًا طيلة أشهر الحرب أهمها التكدس السكاني الكبير، وما رافقه من انعدام أدوات النظافة العامة، وشح المياه وسوء التغذية، وانتشار مياه الصرف الصحي والنفايات، إضافة إلى إشعال النار لطهي الطعام.
وبيَّن في حديثٍ مع مراسلتنا، أن ذلك أدى لانتشار متسارع للأمراض المعدية في صفوف النازحين، أهمها الأمراض الجلدية والتهابات الجهاز التنفسي العلوي، والقمل، وحساسية العين، والكبد الوبائي، والنزلات المعوية، والإجهاض، فضلاً عن اكتشاف مرض شلل الأطفال الذي لم يظهر منذ ثمانينيات القرن الماضي.
ووفقًا لإحصائية أطلعنا عليها المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فقد بلغ عدد النازحين الذين أصيبوا بأمراض معدية نتيجة رحلات النزوح المتكررة أكثر من 2,136,026 (نحو 89% من السكان)، وكذلك 71 ألفًا و338 إصابة بعدوى التهابات الكبد الوبائي.
وأكد وهبة، أن الإصابة بالأمراض المعدية زادت في الحرب بنسبة 70% عما كانت عليه في السابق.
ونوّه إلى أن حالات النزلات المعوية التي لا تكاد تخلو منها المستشفيات والمراكز الطبية، لا تتوفر التحاليل المناسبة لتشخيصها، محذرًا من أن عدم تقديم العلاج المناسب قد يُعرّض المريض للوفاة.
![]() | ![]() |
سيدة تعد الخبز لعائلتها محمود الهمص فرانس برس | صورة أكثر اتساعًا لبركة المياه المتعفنة التي تتوسط المنتزه |
تفاصيل مُفزعة من منظور بيئي
بدوره حذر م. محمد مصلح، المختص في الشؤون البيئية، من عواقب خطرة على الصحة العامة والبيئة، لما أفرزه العدوان من أزمات وكوارث، أبرزها طفح مياه الصرف الصحي، وتلال النفايات التي تُحاصر الناس أينما ذهبوا.
إذ يُوجد في قطاع غزة خمس محطات معالجة كاملة لمياه الصرف الصحي، لكن الاحتلال أعاق وصول الطواقم المتخصصة إليها منذ بداية الحرب، باعتبارها تقع في المناطق الشرقية الحدودية، بالتوازي مع تكثيف استهداف البنية التحتية وما تمتلكه البلديات من أدوات وآليات.
وأشار مصلح في مقابلة هاتفية مع مراسلتنا، إلى أن الاحتلال دمّر قرابة 88% من شبكات المياه والصرف الصحي، وألحق أضرارًا بـ 45 مضخة كانت وظيفتها قبل الحرب، ضخ المياه إلى محطات المعالجة.
كما فاقم عدم توفر الوقود اللازم لتشغيل المضخات الوضع، إذ وصل ارتفاع "مياه المجاري" في بعض المناطق الجنوبية التي كانت تعجّ بمئات آلاف النازحين لـعَشرة سنتيمترات، فمَا أحلى المرّ للتخلص من أكبر قدرٍ ممكن من هذه المياه؟
![]() | ![]() |
طفلة تسير بينما تحترق النفايات بجانبها | عائلة تنشر ملابسها على أوتاد الخيمة بجانب أدوات المطبخ |
يُجيب عن سؤالنا بالقول: "تصريف 150 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي إلى البحر يوميًا، ولكم أن تتخيلوا حجم الكارثة التي تنتظرنا في الصيف. قبل الحرب كانت تتفاوت نسبة تلوث مياه البحر من 50 إلى 70% مع عمل محطات المعالجة، فما بالكم الآن؟".
كذلك لم تكن غالبية مخيمات النزوح، تحديدًا في المناطق الجنوبية، مجهزة بشبكات صرف صحي، لذا اضطر النازحون لتصريف "مياه المجاري" إلى الخزان الجوفي، ما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في نسبة التلوث.
ويستدل مصلح في حديثه، على منطقة المواصي جنوب القطاع، التي كانت ذات كثافة سكانية هي الأعلى طيلة الحرب، إذ تمتاز تربتها بأنها "رملية"، سهلة التغيّر بناءً على المواد المضافة إليها، مشيرًا إلى أن "مياه المجاري" تسربت إليها بكميات كبيرة جدًا، ما يعني أن نسبة النترات بالتربة تضاعف عما كانت عليه في السابق (50 ملغم).
وبالانتقال إلى النفايات، يُقدر، وجود ما مجموعه 800 ألف طن من النفايات في المكبّات العشوائية المنتشرة في قطاع غزة ويبلغ عددها 191، والتي قال المتحدث باسم بلدية غزة حسنى مهنا، إنها اُستحدثت اضطراريًا في بعض المناطق.
وأقرّ مهنا، أن المكبات العشوائية ليست حلاً جذرياً، بل هي خيار قسري مؤقت لتقليل تراكم النفايات في الأحياء السكنية، إلا أنها تفاقم المخاطر الصحية والبيئية بسبب عدم توفر آليات الطمر الصحي أو العزل.
وفي الأوضاع العادية، كان يُحوّل إلى المكب الرئيس في صوفا شرق بلدية الفخاري في خان يونس 600 طن من النفايات، إلى جانب 1000 طن يوميًا إلى مكبّ جحر الديك شرق غزة، وفق حديث محمد مصلح.
لكن بعد أن فرض الاحتلال حظرًا على الوصول إلى هذين المكبيّن، أصبحت الشوارع مقصدًا لنفايات المواطنين، فأينما اتجهت ستجد نفسك محاصرًا في مكرهة صحيّة، تُصعّب تحركاتك وغالبًا ستندم لأنك خرجت من منزلك أو من خيمتك.
كما أنّ البلديات تعمل حاليًا بقدرة تشغيلية لا تتجاوز الـ 30% من طاقتها السابقة بسبب ما لحق بأسطولها من دمار، ما فاقم الأزمة أكثر.
وفي سؤاله عن "أخطر أنواع النفايات على الصحة العامة؟" أشار إلى "النفايات الطبية" وهذا لا يلتفت إليه المواطنون، موضحًا أنّ خطورتها تكمن في كونها أنها قد تكون ناقلة للعدوى وتحتوي على مواد كيميائية وملوثة تتطاير بسهولة في الهواء أو بمجرد اللمس، فتضرّ بالمواطنين إضراراً بليغًا.
واستنادًا لما جاء في حديث مصلح، توضع النفايات الطبية في مناطق مفتوحة وقريبة من مخيمات النازحين، وقد زادت كميتها في الحرب، إذ تتفاوت من طن إلى طن ونصف يوميًا، في حين كان يُولد في السابق حوالي طن يوميًا، وتُعالج في محطتي غزة وخانيونس.
![]() | ![]() |
مطبخ بدائي لعائلة أبو سيف في العراء | مكب النفايات المؤقت في سوق الفراس .. مجدي فتحي الأناضول |
"حرق القمامة" وهل ينقصنا كوارث؟
تستفز القمامة المواطن المقهور الذي يلّفه العجز عن فعل شيء لتغيير حاله، فتجده في أحيان كثيرة يُشعل النار في كومة نفايات تراكمت أمام خيمته أو بقايا منزله ليتخلص منها. سلوك اضطراري نعم! لكن ما مخاطره؟
يشرح لنا المختص في الشؤون البيئية قائلًا إنّ "ألسنة الدخان الأسود المنبعث من حرق النفايات، تحوي غازات سامة، إذ ينتج عنها ثاني أكسيد النيتروجين، وثاني أكسيد الكربون، وهذه المواد تُعد مسببًا رئيسًا لأمراض السرطان والجهاز التنفسي".
عدا عن ذلك، فإن التربة والمياه الجوفية تتأثران ببقايا حريق النفايات الملوثة، كما يساهم في زيادة الاحتباس الحراري، وغزة لا ينقصها مزيدًا من الكوارث.
أخيرًا قدَّم م. محمد مصلح وجهة نظره للتخلص من أتلال النفايات بـ "أقل الأضرار" وتتمثل أولًا بـ "حصر المكبات في مناطق محدودة ذات تربة طينية وليست رملية، لتجنب الإضرار بالخزان الجوفي والتربة، وأن تكون بعيدة عن تجمعات المواطنين".
نفايات متراكمة .. حمزة قريقع الأناضول
ثانيًا: تهذيب المكبّات وتغطيتها بطبقة من الرمال أو الركام الناعم أسبوعيًا؛ لحمايتها من نبش الحيوانات الضالة ومنع أي محاولات لإشعالها، محذرًا من تبعات تسرُّب عصارة النفايات إلى الخزان الجوفي والتربة.
ثالثًا: البدء بحشد دولي عاجل للتدخل، وإلزام الاحتلال بتوفير ضمانات لوصول آمن إلى المكبين الرئيسين، والمباشرة بإصلاح البنية التحتية باعتبارها أولوية قصوى لإنقاذ حياة المواطنين والبيئة المتردية.
ومن جانبه، أطلق حسنى مهنا نداءً عاجلًا للمجتمع الدولي والمنظمات الإغاثية بضرورة التدخل الفوري لتوفير الدعم اللازم لإزالة النفايات، وإدخال الآليات والمعدات الثقيلة اللازمة لعمل البلديات، وإنقاذ السكان من كارثة صحية وبيئية غير مسبوقة.
خيمة تحاصرها النفايات من جميع الجهات
No comments:
Post a Comment